الأربعاء، 6 يناير 2010

القصة عند العقاد-نجيب محفوظ

كتبها:نجيب محفوظ
نشرتها:جريدة الرسالة
تاريخ النشر:أغسطس 1945

القصة عند العقاد

الفن – أيا كان لونه وأيا كانت أداته – تعبير عن الحياة الإنسانية , فهدفه واحد
وان اختلفت كيفية التعبير تبعًا لاختلاف الأداة , وكل فن فى ميدانه السيد الذى لا
يبارى , ففى عالم اللون التصوير سيد لا يعلى عليه , وفى دنيا الأصوات
الموسيقى سيد لا يدانى وهكذا , فالفنون جميعًا تتفق فى الغاية وتتساوى فى السيادة
كل بحسب محاله , وهى فى مجموعها تكون دنيا الأفراح والمسرات والحرية ,
حيث يعيش أبناؤها على وفاق ومحبة وتعاون , لا يكدر صفوهم مكدر إلا أن
يتصدى رجل كبير كالعقاد لدنياهم المطمئنة , فيرمى بحيرتها الساجية بحجر ثقيل
يطين رائقها , ويبعث الثورة فى أطرافها , فيقول : ان هذا اللون من الفن راق
وذاك منحط , هذا عزيز وذاك مبتذل , يقول هذا وهو أعلم الناس بالفنون , وأحبهم
لها , وأحقهم بأن يعرف لكل قدره ومنزلته . ولن يفيد الفن شيئًا من تحقيره لبعض
أنواعه , إلا أن يغضب قومًا أبرياء يحبون الحق كما يحبه ويولعون بالجمال كما
يولع به , ويبذلون فى سبيل التعبير عنه كل ما فى طاقتهم من قدرة وحب .
وعسى أن يقول قائل : إن العقاد ما قصد التحقير , ولكنه مفكر له الحق كل الحق
إن يرتب الفنون عامة أو فنون الأدب خاصة كيفما يرى .
هذا حق فى ذاته , ولكنى فى هذه القضية رأيت العقاد الخصوم يتغلب على العقاد
الناقد . انظر إليه وقد لاحظ حواريه (( فى بيتي العقاد )) صغر نصيب القصص
من مكتبته فأجابه قائلا : (( ... لا أقرأ قصة حيث يسعني أن أقرأ كتابًا أو ديوان
شعر , ولست أحسبها من خيره ثمار العقول )) . فالرجل الذى لا يقرأ قصة حيث
يسعه أن يقرأ كتابًا أو ديوان شعر بالحكم النزيه الذى يقضى فى قضية القصة .
والرجل الذى يلاحظ على مكتبته صغر نصيبها من القصة ينبغى أن تكون القصة
آخر ما يرجع إليه فى حكم يتصل بها . بل انه يفضل النقد – لا الشعر والنثر
الفنى وحسب – على القصة . والمعروف أن النقد ميزان لتقويم الفنون , فكيف
يفضل على أحدها ؟ ! وهل تنزل القصة هذه المنزلة عند شخص إلا إذا كان لها
كارهًا وعليها حاقدًا ؟ ! فحكم العقاد على القصة حكم مزاج وهوى لا حكم نقد
وفلسفة . بيد أنى أريد أن أتناسى ذلك , وأريد أن أنظر نقده بعين مجردة , لأن
لكلام العقاد قيمة خاصة عندى , ولو كلن مصدره المزاج والهوى
قال العقاد لصاحبه وهو يحاوره : (( ... إنني أعتمد فى ترتيب الآداب على
مقياسين يغنياني عن مقاييس أخرى , وهى الأداة بالقياس إلى المحصول , ثم
الطبقة التى يشيع بينها كل فن من الفنون ... ما أكثر الأداة وأقل المحصول فى
القصص والروايات ؟ إن خمسين صفحة من القصة لا تعطيك المحصول الذى
يعطيكه بيت كهذا البيت :
وتلفتت عينى فمذ بعدت عنى الطلول تلفت القلب إلى أن قال : (( أما مقياس
الطبقة ... فلا خلاف فى منزلة الطبقة التى تروح بينها القصة دون غيرها من
الفنون الخ ))
هذان هما المقياسان اللذان قضى بهما العقاد على القصة بالهوان وما هى القصة ؟
هى سيدة فنون الآداب دون منازع لثلاثة قرون خلت من أزهى عمر البشرية ,
هى الفن الذى جذب إليه أكبر عبقريات الأدب فى جميع الدنيا المتحضرة المثقفة .
فما حقيقة هذين المقياسين ؟
أما عن الأداة والمحصول , فالحق أنهما شىء واحد فى كل فن رفيع , ففى الشعر
الجيد كما فى القصة الجيدة تتحد الأداة والمحصول , وهذا يتفق ومعنى البلاغة
الذى يقول فيه الزيات : (( إنها هى البلاغة التى لا تفصل بين العقل والذوق ولا
بين الفكرة والكلمة ولا بين الموضوع والشكل )) . ذلك المعنى الذى أعجب به
العقاد أيما إعجاب ( الرسالة رقم 631 ) . ففى الفن الجيد – قصة كان أو شعرًا –
ينمحى التنافر بين الأداة والمحصول , فإذا زادت الأداة على المحصول فذلك شاهد
ضعف أو ركاكة قد يعتوران الشعر كما يعتوران القصة , ولكنه ليس صفة
ملازمة للقصة دون غيرها من فنون الأدب , فهذا المقياس نافع للتميز بين الجيد
والرديء من آيات الفن الواحد , لا للموازنة بين الفنون المختلفة , لأن كل فن فى
ذاته يشترط الانسجام الكلى بين أداته ومحصوله . إذا كيف يرى العقاد كثرة الأداة
وقلة المحصول صفة ملازمة للقصة ؟ ! لا أحد لذلك تفسيرًا إلا إذا كان العقاد يعد
التفاصيل فى القصة زيادة فى الأداة , وإلا إذا كان يعتبر القصة عم ً لا أدبيًا مطولا
ذا مغزى يمكن تلخيصه فى بيت واحد من الشعر . وهذا تفسير عجيب ان صح .
فالقصة لا ترمى لمغزى يمكن تلخيصه فى بيت من الشعر , ولكنها صورة من
الحياة , كل فصل منها جزاءًا من الصورة العامة وكل عبارة تعين على رسم جزء
من هذا الجزء , فكل كلمة وكل حركة تشترك فى إحداث نغمة عامة لها دلالتها
النفسية والإنسانية , وكل جملة – فى القصة الجيدة – تقرأ وتستعاد قراءتها ولا
يغنى عنها شىء من شعر أو نثر . ولا تحسبن التفاصيل فى القصة مجرد ملء
فراغ , ولكنها ميزة الرواية حقًا على فنون القصة الأخرى وفنون الأدب عامة .
وهى لم توجد اعتباطًا ولكنها جاءت نتيجة لتطور العصر العلمى العام , فالعلم هو
الذى وجه الانتباه للأجزاء والتفاصيل , بعد أن ركزته الفلسفة طوي ً لا فى الكليات .
اكتشف العلم لكل جزء من أجزاء المادة – حتى الذرة – حياة وأهمية , وبدت آثار
هذه النزعة العلمية فى عالم الآداب فى عناية الرواية بالتفاصيل , لم يعد الأدب
يكتفي بتحضير الأقراص المركزة , وأدراك أن التفاتة أو فلتة لسانية أو حال
إنسان وهو يتناول طعامه , كل أولئك أمور لها دلالتها النفسية وتعتبرها الصادق
عن الحياة . ومن عجب حقًا أن العقاد يعلم ذلك كله , وأنا أذكر أنه كتب مرة – لا
ادري متى ولا أين – عن توماس مان , فأشار إلى تفاصيله الدقيقة فى رواياته
وبراعتها فى الدلالة والتأثير , فكيف يساوى بيت من الشعر خمسين صفحة من
قصة ؟ بل هل نغالي إذا قلنا إن صفحة من قصة تحتاج لعشرات البيوت من
الشعر لتحيط بدقائقها وجمالها ؟ ! خذ مثلا هذا البيت من الشعر الذى استشهد به
العقاد (( وتلقيت عيني ... )) ولنفرض أننا نريد أن نستوحيه أقصوصة , فماذا
نصنع ؟ أما الشاعر فقد تصور المعنى وليس هو بالبعيد المنال وصبه فى هذا
القالب الجميل . أما القاص فينبغى أن يتصور إلى ذلك ذكرًا وأنثى , ويتخيل لكل
منهما نموذجًا بشريًا خاصًا , وعليه أن يصور زمانًا ومكانًا , وموقف وداع , تارة
محسوس تلتف فيه الأعين , وتارة معنوى يتلفت فيه القلب . فليس هذا العرض هو
نفس البيت ولا أكثر , ولكن العلاقة بينهما كالعلاقة بين الشجرة النامية ذات الزهر
والثمر والبذرة الضئيلة . لقد رمى بعض المتعصبين للأجناس العرب بضعف
الحيال والعجز عن الإبداع والتحليل والتفصيل والاكتفاء بتصور المعانى وتركيزها
, فهل يريد العقاد أن يؤيد هذه الأقوال الجائرة ؟ ! والواقع أن الإبداع الفنى لا
يتمثل فى عمل أدبي كما يتمثل فى ادب القصة . ولذلك اتخذ أغلب السفر الخالد
صورة من صور القصة كالملحمة والتمثيلية . هذا بعض ما يقال فى المقياس
الأول وأما المقياس الثانى , فهو مقياس الطبقة , يريد العقاد أن يقول : إن القصة
تنتشر فى طبقة لا يتنازل إليها الشعر , وإذا فالشعر أرقى من القصة . وهذا قول
وجيه من الظاهر ! ولكنه لا ينطوى على شىء خطير , فمجرد انتشار فن فى
طبقة لا يدل على شىء ما لم نبحث أسباب انتشاره . فالموسيقى تنشر فى جميع
الطبقات حتى بين الأميين , فهل يقال إن النحت مث ً لا أرقى منها لأنه لا يكاد يتذوقه
إلا رواد المتاحف ؟ ! ثم ما هى القصة المنتشرة حقًا ؟ أليست هى قصة الجريمة
والمخاطرة والغرام المبتذل ؟ وكل أولئك ليس من القصة الفنية فى شىء . القصة
الفنية – كما يعلم الدارسون لهذا الفن – حكاية تروى كالقصة المبتذلة , إلا أنه
يشترط فيها أن تعرض فى ثنايا روايتها قيمة إنسانية أو أكثر كتصوير الشخوص
وتحليل النفس والشاعرية والفكاهة والمعانى الفلسفية والآراء الاجتماعية , بل من
القاصين المحدثين من يستهين بالحكاية ويقنع بالقيم , فإذا خلت القصة من هذه القيم
, فهى حكاية وليست قصة فنية , ولا يجوز لمنصف أن يحكم بها على هذا الفن
وإلا جاز لنا أن نحكم على الشعر ببعض الأزجال الجنسية التى يحفظها العوام .
أجل إن القصة لا تزال أعظم انتشارا من الشعر ولكن أكان ذلك لسيئة فيها أم
لحسنة ؟ إن الخاصة التى تقرأ الشعر الرفيع وتتذوقه تقرأ القصة الرفيعة ونشغف
بها , وإذا كان العقاد لا يقرأ القصة إلا مضطرًا فطه والمازنى والحكيم وايزنهاور
يقرءونها بغير إضرار . ولئن انتشرت القصة فى طبقات أخرى فما ذلك لسيئة بها
ولكن لحسنتين معروفتين : سهولة العرض والتشويق فانتشار القصة الجيدة بين
قوم لا يهضمون الشعر الجيد مرده إلى أن القصة فى ظاهرها حكاية تروى
يستطيع أن يستمتع بها القارىء العادى لسهولتها وتشويقها . وليس بالسهولة من
عيب يجرح الذوق السليم ولا بالتشويق من انحطاط يؤذى الفهم الرفيع .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق