الأربعاء، 6 يناير 2010

المجتمع و الرقى البشرى-نجيب محفوظ

كتبها:نجيب محفوظ
نشرتها:المجلة الجديدة
تاريخ النشر:نوفمبر1935

اﻟﻤﺠتمع والرقى البشرى

للإنسان قصة معروفة يرويها الطبيعيون وهي أنه فصيلة من الحيوان أخذت مكاﻧﻬا
بين الأحياء بعد جهاد عنيف وصراع مخيف قام بين الحيوان نفسه في بادىء الأمر ثم بينه
وبين الإنسان. وهو صراع يعتمد على القوة وحدها ويتخذ منها أداة لتحقيق غرض الحياة
إلا وهو بقاء الأصلح وفناء الضعيف الذي لا يقدر على احتمال بأساء العراك، صراع لا
يعرف غير الوحشية والقسوة لأنه لا غرض له إلا التفوق والفوز ﺑﻬبة الحياة.
استسلم الحيوان لهذه الحياة القاسية لأنه لا قدرة له على التفكير، فهو لا يقدر
مخاطرها، ويخضع لها خضوعًا غريزيًا وهو ما يزال يسير على سنتها، ينقرض منه ما ينقرض
ويتحكم ما يتحكم، أما الإنسان فكان له شأن آخر، فهو كما يقول الفيلسوف الإنجليزي
هوبز قدر هول الفناء الذي يعقب حتمًا عن استمراره في حياة التناحر ففكر في إﻧﻬائها
ووجد إلا سبيل إلى ذلك إلا بالاجتماع. فهو يمكن له من حياة يتحول فيها من الوحشية
والفردية أو من حياة الأسرة إلى حياة اشمل يشترك فيها مع غرباء في تحمل أعباء الحياة
وأول شرط لهذه الحياة الجديدة هو منع الاعتداء وحماية الأرواح في مقابل فروض كانت
فيما بعد أص ً لا للحقوق والواجبات.
على أن غرائز الإنسان المكبوتة وجدت لها متحو ً لا تبين أنه أشد خطرا وأعظم
فتكامن عراك الأفراد عنى به تناحر الجماعات، وهو الذي تطور من نزاع بين قبيلتين إلى
تطاحن بين أمتين، واستأنف قانون تنازع البقاء تحكمه في حياة الأمم وأخذت الأمم القوية
تسود والأمم الضعيفة تتخاذل وتفنى، وهو صراع بين القوى الجسيمة والمواهب النفسية
على السواء فكلنا يعلم ما تتطلبه الحرب من اختراعات وحيل هي آيات على التفوق
الذهني بل هي آيات على المتانة الخلقية من إدارة وإخلاص وشجاعة.
فالإنسان الاجتماعي ما برح كأخيه الطبيعي خاضعًا لقوانين الطبيعة التي خلقت
الإنسان من بين الحيوان، ولكن اﻟﻤﺠتمع خلق لنا قوانين أخرى أهمها جميعًا الأخلاق، لست
الآن بصدد مناقشة أصل الأخلاق وهل هو اجتماعي أم طبيعي أم الهي، فآيا كان الرأي
فأنه لا يمكن تصور أخلاق من غير مجتمع، فاﻟﻤﺠتمع على كل حال هو المكان الطبيعي لنمو
الأخلاق سواء أكان علتها المفردة أم علتها الجزئية أم كان الظرف الممهد من غير اشتراك
فعلى.
إذن فقد تعلم الإنسان الأخلاق في اﻟﻤﺠتمع. والأخلاق منها المحلى الذي يتميز به بلد
عن بلد ومنها العالمي الذي يدين به جميع البشر. فالأخلاق من هذه الناحية رابطة عالمية
تربط الإنسان بأخيه الإنسان وتوجه عقله إلى التفكير في الإنسانية و إلى تجاوز الحدود
الاجتماعية وهذا يمهد إلى تطبيق القواعد الأخوية المحلية على اﻟﻤﺠتمع الانسانى الكبير وخلق
الآداب الإنسانية العامة، فإذا أضفت إلى ذلك اتصال اﻟﻤﺠتمعات عن طريق تبادل الآراء
والثقافات والرحلات أمكنك أن تلمس الأسباب التي مهدت لوجود هذه الأخلاق
الإنسانية العالية التي تناهض مباديء الطبيعة القاسية مناهضة تامة بعد أن ناهضتها المباديء
الاجتماعية مناهضة جزئية، تلك المبادئ التي لا تتفق مع تنازع البقاء وبقاء الأصلح المبادئ
التي تقوم على المحبة والسلام وتدعو للضعيف كما ندعو للقوى، و قد دعا إلى هذه
الأخلاق وبشر ﺑﻬا أنبياء وقديسون واعتبروها كمال الكمالات وملاذ البشر من الهلاك
والفناء والشر وسبيله إلى السعادة والسمو.
ولكن قد يقال إذا كانت هذه الأخلاق التي تتكلم عنها تناهض الطبيعة، وقوانينها
تلك القوانين التي أبدعت الإنسان أكمل المخلوقات، فالمعقول أنه لابد أن ينتج من حلها
محل قوانين الطبيعية وقف التقدم البشرى وجمود التطور عند الإنسان، بل ليس الأمر مجرد
توقف عن السير إلى الأمام ولكنه تدهور لا محيد عنه لأن الأخلاق تمكن للضعفاء وتساوى
بينهم وبين الأقوياء وهم ولا شك أوفر عددًا وأعز نفرا فيتغلب عنصرهم، ويكتسح
نسلهم على حساب المتفوقين الذين ينقرضون شيئا فشيئا لضمور مواهبهم ومزاياهم.
فالأخلاق إذا نذير بالقضاء على الكمال والقوة وبشرى للضعف والشر ومابينها من رذائل
طبيعية، أن صح لنا أن نقول ذلك.
ومن هنا نشأت فلسفة نيتشة فقد فرق بين نوعين من الأخلاق أخلاق السادة
وأخلاق العبيد. وقال أن أخلاقنا التي يقومها التهذيب والرحمة والمساواة هي أخلاق تسود
الضعفاء وتمكن للضعف وتثبت أقدام العبودية. ووجه لذلك حملات شداد إلى البوذية
واليهودية والمسيحية والديموقراطية واعتبرها أطوارا متتابعة لأخلاق العبودية، وقال أيضًا أن
الإنسانية حلقة من سلسلة لا يرى طرفها وليست حدًا وﻧﻬاية وكما خرج الإنسان من
الحيوان فمنطق التطور يسلم بإمكان خروج أنسأن أعلى من الإنسان الحالي على شرط أن
يترك التطور وشأنه ليعمل تبعًا لقوانينه الطبيعية أما الأخلاق فهي عقبة كؤود في سبيل هذا
التطور.
ولكن التضاد بين الأخلاق وقوانين الطبيعة لا يتعدى الظاهر أو قل أنه تضاد في
الوسيلة دون الغاية من قوانين الطبيعة هي الكمال والقوة في العقل والجسم فأن اﻟﻤﺠتمع لا
ينكر هذه الكمالات والأخلاق لا تثور عليها ثورﺗﻬا على قوانين الطبيعة القاسية فالقوة
العقلية والجسمية من الفضائل الاجتماعية ومما تزكيه الأخلاق مادام موجها في سبيل الخير
والصالح العالم.
أفليس لو كانت الأخلاق تضاد قوانين الطبيعة في الوسيلة والغاية لكانت تذم غايتها
ولا ترضى عنها وتنبذ من يحوزها ؟ فالحق كل الحق أن الأخلاق تقصد إلى الكمال
وتتوخى طريقه والحق كذلك أن اﻟﻤﺠتمع يطلب هذا الكمال لأنه هو الذي أبدع الأخلاق
أو على الأقل لا يمكن أن تتناقض آماله مع آمالها إلا أنه لا يتخذ من الوسائل ما تتخذ
الطبيعة وإذا اتخذ شيئا من وسائلها فهو يهذﺑﻬا ويقيدها.
يبقى سؤال وهو كيف تنبذ الأخلاق قوانين الطبيعة وتعمل في نفس الوقت على
تحقيق غايتها ؟وهو من الأسئلة التي شغلت بال كثير من الفلاسفة الذين مهدوا للأخلاق
الاجتماعية مثل سبنسر ورودلف جيرنج ووسترمارك: يرى سبنسر مث ً لا أن الحروب تفنى
الشعوب وتقضى على كل ما فيها من خير وشر. ويلاحظ من ناحية أخرى أن السلام
يكثر الضعفاء ويسلطهم على اﻟﻤﺠتمع مما تكون نتيجته الحتمية تسلط آداﺑﻬم بما فيها من
خور وجبن ولكنه وجد أن العدالة توفق بين الحالتين وتحمى السلم من شر الضعف
وتسلطه و تمهد السبيل للأخلاق لبلوغ الكمال الذي تتوخاه القوانين الطبيعية لأﻧﻬا تعطى
كل ذي حق حقه وتضع كل أنسأن موضعه فتطهر الأخلاق من الضعف الذي قد يسوق
إليه المبالغة في إتباع بعض قواعدها كالمساواة و الرحمة، فقد يكون من الرحمة مث ً لا أن
تضحى بحياتك في سبيل شيخ فأن ولكن العدل لا يقضى ﺑﻬذه التضحية. وقد توجب
الرحمة العفو عن كثير من اﻟﻤﺠرمين ولكن العدالة تأخذهم بالشدة اللازمة لتطهير اﻟﻤﺠتمع.
فالأخلاق تحمى نفسها بنفسها تأمر بالرحمة كما تأمر بالقسوة وبذلك تضع كمال
الطبيعة نصب عينيها من غير أن تلجأ إلى وسائلها البدائية.
وفرق بين الكمال الذي يتوخى غايته اﻟﻤﺠتمع وبين الطبيعة التي تريد الأقوى من غير
قيد و لا شرط، فالقوى بجسمه وبعقله هو الذي يستحق في نظرها، نعمة الحياة وتحفظها
له مهما كان حظه من القسوة والشر كبيرا، واﻟﻤﺠتمع يريد القوى أيضًا في الجسم والعقل
ولكنه يشترط أن يكون كذلك قويا في خلقه ولأتناقض بين هذه الأحوال جميعا، مادام
تنظمها العدالة وتوجهها إلى سبيل الخير فالقوى يحكم في اﻟﻤﺠتمع ولكنه لا يقتل الضعيف
بل أن من مزايا قوته أن يترفع عن منازلة من هو اضعف منه ويرى من واجبه أن يدفع عنه
الأذى ويأخذ بيده في طريق الحياة الوعر.
وثمة فرق آخر هو أن الطبيعة تسير الحيوان في الطريق الذي تريد بغرائزه وهو يطيعها
غير دار بمقصدها ويرضخ لها رضوخًا آليا لا تقدير فيه فآماله لا تتعدى الطعام والأنثى
والمسكن أما الرجل الاجتماعي فله ضمير حساس يقدر به نفسه ومن حوله ويعرف أن له
غاية يعمل لها وأنه يسعى لبلوغ مث ً لا أعلى وما الطعام والأنثى والمسكن إلا وسائل لغايات
عليا يحيا لها. فالحياة الاجتماعية الخلقية لا تعوق عن الكمال وهي فوق ذلك تخلق للفرد
شخصية خلقية يجب أن نعدها كسبًا له من الوجهة الإنسانية.
وعندي أن اﻟﻤﺠتمع يزود الفرد بعواطف كثيرة تحثه على الرقى والسمو فالفرد اذا
وجد بين أفراد اختلجت في قلبه عواطف الأثرة وحب السيطرة والتفوق مما يدفعه للعمل
على الظهور والفوز، واﻟﻤﺠتمع كذلك يعبد الأبطال عبادة في الحياة وفي الممات ويضيف
إليهم من الفضل ما هو حق أن يضيف إليهم وما هو عدل أن يضاف إليه وهو وكل ذلك
يغرى بالبطولة والكمال.
ولكن ما الرأي في شرور اﻟﻤﺠتمع ؟ حق أن شرور اﻟﻤﺠتمع لا تحصى وقد كانت
موضع نقد وتشاؤم كثير من المفكرين حتى ذهب بعضهم إلى حد الدعوة إلى الحياة
الطبيعية و لكن الكمال التام كان دائمًا ولكل وجه من الفساد خير يقابله ولقد جاهدت
الأخلاق كثيرا وما تزال تجاهد في سبيل الإصلاح فلا معنى لليأس، و يجب ألا نجعل لليأس
سبيلا إلى نفوسنا حتى لا تسود الحياة في أعيننا ويملأ قلوبنا التشاؤم فنخسر ﺑﻬجة الحياة
ومسراﺗﻬا.
والحق أن ذم اﻟﻤﺠتمع لشروره يدل على عدم تقديرنا للخير الذي ظفرنا به في اﻟﻤﺠتمع
وليصح أن هذه الشرور ضرورية للحياة الاجتماعية – وهذا غير صحيح – لوجب أن
نقبلها كثمن للحياة في اﻟﻤﺠتمع لا أن ننبذ اﻟﻤﺠتمع من اجلها، وخلاصة القول أننا يجب أن
ننظر إلى اﻟﻤﺠتمع كما ينظر المؤمن إلى ربه وقد تصيب المؤمن الشرور ويعلم أن الله أصابه
ﺑﻬا ولكنه لا يذم الله بل يشكره ويرجو منه خيرا عاج ً لا يعوض عليه شرا آج ً لا وليس ذلك
بكثير فاﻟﻤﺠتمع هو الذي خلق لنا أكمل ما في أنسانيتنا وهو سبيلنا إلى الرقى والكمال.
وليذكر الذين يقولون أن الطبيعية تخلق لنا الغرائز والمواهب أن هذه المواهب ما كانت
تخلق العلم والأدب والفن لولا اﻟﻤﺠتمع على أن ذلك يجب إلا يخدعنا عن حقيقة مهمة وهي
أنه إمامنا عمل جليل خطير يتطلب الأجيال الطويلة والتجارب الكثيرة لخلاص الإنسانية
وكمالها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق