الأربعاء، 6 يناير 2010

ليلة الغارة-نجيب محفوظ

كتبها:نجيب محفوظ
نشرتها:الثقافة-العدد162السنة الرابعة
تاريخ النشر:فبراير 1942

ليلة الغارة

سيذكر أهل العباسية ليلة منتصف سبتمبر ما نبضت لهم قلوب. وسأذكرها خاصة
كأشدهم ذكرًا لها. ولا عجب فقد امتحنا تلك الليلة بتجارب الرعب والفزع. وابتلينا
برؤية الموت سافرًا، أحاط بنا جو الظلام والوحشية. وكانت القاهرة قد ألفت أن تستيقظ
في جوانب متباعدة من الليل على عويل الإنذار بالغارات، متقطعا منذرًا بالشر، ومتص ً لا
مبشرًا بالسلام، ثم وقعت غارات الإسكندرية المفجعة، وترامت ﺑﻬا الأخبار، فحمل توقع
الشر الناس على الأخذ بأسباب الحذر من اللجوء إلى المخابئ العامة أو المخابئ الخاصة أو
الأدوار التحتية، وإنفضت الليالي بسلام، فاطمأنت النفوس، وتراخت عن الحذر، ولم تعد
الحجرة التي أعددﺗﻬا لاستقبال سكان بيتنا تستقبل أحدًا منهم، ولبثت خالية بستائرها
السوداء الكثيفة ونورها الأزرق الخافت.
فلما كانت الليلة المشئومة، استيقظت كالعادة بعد منتصف الليل على صفارة
الإنذار، ففتحت عيني ولما أفق من ذهول النوم، وظللت ثواني لا أفقه معنى الصوت
المدوي، ثم أدركت ما هنالك. وإستولى على سخط لذلك النذير الذي يطير النوم عن
أجفاننا ويرهف أعصابنا ويتركها فريسة السهاد ما بقى من الليل. ولبثت راقدًا لا أحرك
ساكنًا، وقد أخذت استرد شيئا من أفكار اليقظة وأحلام الليل وخواطر يشوﺑﻬا القلق...
... ثم تناهى إلى مسمعي صوت غريب، فأرهفت السمع ورفعت رأسي عن الوسادة في
قلق، وفى تلك اللحظة جاءني صوت أعرفه وأحبه من الحجرة اﻟﻤﺠاورة يهتف بي: " ألا
تسمع ؟... هذا أزيز طائرة"... نعم وهو ما كنت منه في شك. وﻧﻬضت على قدمي،
ودلفت إلى النافذة وفتحت أدرا فها الزجاجية، فسمع الصوت واضحا متزنا متصلا...
وانتظرت آملا أن ينقطع... أن يغيب في أفق من الآفاق... ولكنه استمر في عناد بغيض
مزهق للنفوس، حتى خلت أن الطيارة تدور فوق البيت... وجعلت اقلب ناظري في
السماء، فلا أرى شيئا غير النجوم الساهرة... والأزيز ينبعث من كل مكان ولا يمسك أو
يخف أبدًا... وخطر لي أن يكون مصدره طيارات مطاردة، وقوى الظن عندي سماع
الأزيز سريعا عقب انقطاع الصفارة، وراق لي الظن، ورجوت – صادقا – ان يصح
خبره... وما عتم أن رن جرس الشقة، فعلمت أن الجيران أقلقهم ما أقلقنى، وأﻧﻬم آثروا
أخيرًا اللجوء إلى حجرة الغارات كما ندعوها، وهرعت غلى الباب مستأنسا بالقادمين،
وفتحته فدخل الشيخ سيد مواهب – وهو من ذوى المعاشات – وزوجه، وحيياني، ثم
قال وهو يأخذ مجلسه المعتاد:
- كأن السماء ملأى بالطائرات.
فقلت له بلهجة انطوت على الرجاء:
- لعلها طائرات المطاردة.
فتمتم قائلا: " على الله “. وقالت زوجه:
- الشتاء قريب، ومغادرة البيت في الليل عمل شديد الخطورة، فينبغي إقناع
صاحب البيت بإنشاء مخبأ في الحديقة.
وهممت أن أؤيد رأيها، ولكن الأزيز اشتد وازداد وضوحا، فنسيت ما أردت قوله،
وانتقلت إلى مخدعي، ونظرت خلال النافذة إلى السماء، فتراءى لي مشهد جديد، رأيت
الأنوار الكاشفة تجول في رقعة السماء بسرعة جنونية، فتتماس وتتلاقى وتتقاطع، فخفق
قلبي وأيقنت أن ما نسمع من أزيز صادر حتما من طائرات معادية تخبط في سماء القاهرة
على هدى أو على غير هدى. وقبل أن أتحول عن موقفي أضاء الأفق بنور خاطف وهاج،
محا ضوء النجوم... وكنت قرأت كثيرا عن مصابيح الماغنسيوم التي تقذفها الطائرات
لتهتدي على ضوئها إلى أهدافها، فلم اشك في أن ما ينير الأفق واحد منها، وساورني
الخوف، وتساءلت مضطربا: هل نبتلى بما ابتليت به الإسكندرية من قبل ؟... ثم سمعت
صفيرًا غريبُا مبحوحُا، أعقبه على الأثر انفجار مروع اهتزت له الأرض وجاوبته الألواح
الزجاجية بطقطقة طويلة، فجفلت إلى الوراء، وتوالت الحوادث بسرعة فائقة. فدوى
انفجار ثان وثالث ورابع، وصكت الآذان أصوات غريبة مزعجة، ثم انطلقت المدافع
المضادة بكثرة وسرعة لا يتصورها العقل، وانقلب الجو الهادئ إلى جحيم من النيران
والزلازل والبراكين، يقلقل النفوس ويكتم الأنفاس. وصرخت السيدة هاتفة: " هلموا إلى
المخبأ ". ولكن زوجها هز رأسه بعنف، وقال بصوت متهدج: " بل نلبث حيث نحن
داعين الله الرحيم... ألا ترين أن التعرض للجو مجازفة خطيرة !". واطرد انفجار القنابل
وانطلاق المدافع، وجرى الجيران نحونا مهطعين، نساء ورجالا وأطفا ً لا، وتعالى الصراخ،
وهتف أناس: " يا لطيف... يا لطيف “. وسمعت شخصا يقول وقد رأى ضوء الماغنسيوم
فأساء فهمه: " لقد أشعلوا النار في العباسية كلها... وهلكنا جميعا.”. . وعلى هذا
النحو رأيت بعين لا تكاد تميز ما ترى الوجوه المفزعة التي هرعت نحونا صارخة. وجاءت
أخيرًا السيدة التي تقطن الطابق الثالث رافعة طفلها الصغير بين يديها، وارتمت على مقعدها
القريب من النافذة وضمته إلى صدرها لتسكن قلبه المذعور، وهى في مثل حاجته إلى من
يسكن قلبها... ولم نحتمل الصراخ فصحنا بالصارخين أن يمسكوا، وساد السكون
الحجرة، ولف الصمت المذعورين الذاهلين، ولبث أشدنا إحتمالا يتبادلون نظرات الحيرة،
وكأﻧﻬم يتساءلون: أما لهذا الهول من ﻧﻬاية ؟
وكان بين الحضور سيدة مهاجرة من الإسكندرية، بلغ ﺑﻬا التأثر مبلغه، فانتابتها
نوبة عصبية غريبة، فأغربت في الضحك، ضحكا جنونيا لا معنى له، وذهبت كل محاولة
لتهدئتها عبثا، وأراد الشيخ مواهب أن يقرأ آية الكرسي، فبدت نبراته مرتعشة، وصوته
متهدجا: ومضى يتلو مبدأ الآية: " الله لا إله إلا هو " ولا يزيد، وكأنما انسيها نسيانا تاما،
وأما زوجه فكانت كلما أحست هزة عنيفة استغاثت طالبة ماء، فلا تكاد تفرغ كوبا
حتى تطلب آخر... وأسندت رأسي إلى يدي فوجدت رأسي ساخنا ملتهبا، وكأن دمى
جميعا قد تركز في دماغي. وكان أقصى ما أتمناه ساعتئذ أن تكف القذائف لحظة ريثما
أتمالك أنفاسي المتداركة المضطربة... وبعد فترة يستحيل تقديرها على وجه صحيح بدأت
حدة الضرب تخف رويدًا رويدًا حتى لم نعد نسمع سوى طلقات منفردة هنا وهناك، ثم
ساد السكون. فتنفسنا الصعداء... ترى هل انتهيت الغارة ؟... وهل ولت حقا الطائرات
المغيرة ؟... وأبرز احد الموجودين ساعته وقال بصوت غريب: " مضى نصف ساعة على
سماع الإنذار..." نصف ساعة !... ونظرت نحوه بحنق وموجدة... رجوت والله أن يقول
بضع ساعات... وان الصبح أسفر أو كاد. نصف ساعة فقط ! كل هذا الدهر ثلاثون
دقيقة... تبا له ! ونظرت فيما حولي فإذا الجميع ملازمون أماكنهم والسيدة ما تزال
محتضنة طفلها. ولكن لم يطل اطمئناننا، فانطلقت قذيفة مدفع قريب، أعقبتها طلقات
أخرى شديدة، فارتجفت القلوب مرة أخرى، وأيقنا أن الموت ما يزال محلقا فوق رءوسنا.
وان طمأنينتنا وهم باطل. وفجأة أضاء الجو بذاك النور الوهاج الخاطف، ونفذ إلى الحجرة
كأنما حيطاﻧﻬا وستائرها السوداء من زجاج شفاف، ومحا نور المصباح الأزرق الخافت.
فلاح الهلع في الوجوه وارتسمت في الأعين نظرة تنذر بالهلاك، وسمع الصفير المبحوح
هابطا تلاه انفجار شديد دكت له الدنيا دكا وزلزلت زلزا ً لا. وأحدث أصواتًا عنيفة في
كل مكان، لعل أخفها وأهوﻧﻬا تكسر الزجاج خلف الستائر، وسرت في بنيان البيت
رعدة، انتقلت منه إلى النفوس، فضجت الحجرة بالصراخ، وﻧﻬض الشيخ مواهب فزعًا
رافعًا يديه، كأنما ليدفع ﺑﻬما سقف الحجرة وصاح لاهثًا: " سقط البيت... سقط
البيت..." واختلط علي الأمر فلم ادر أتصدع البيت حقا أم ما يزال قائما. ولكني سمعت
صفيرًا جديدًا خلته أدنى إلينا، وقبل أن تبلغ القذيفة هدفها طقطقت أدرا ف النوافذ بشدة،
ولطمتني موجة هواء عنيفة كتمت على أثرها أنفاسي، فأحسست اختناقا، ثم هزة قاسية
وانفجارًا يصم الآذان ويمزق شغاف القلوب، فما أدرى إلا والأرض تصدم وجهي،
وزكمت أنفى رائحة البارود الكريهة، فاستولى على القنوط، ودخلني مع القنوط استسلام
غريب لا عهد لي به. بل استهانة سافرة، وقلت لنفسي فلتأت النهاية، ولتأت سريعا...
ولبثت دهرا لا أدرى كيف مر، وقد ساد الصمت فداخلني شك في أنى ما أزال على قيد
الحياة، أو أني على الأقل ما أزال سالما... ورفعت رأسي قليلا، لم اشعر بألم قط، ولكن
ليس معنى هذا أني معافى، فأنا اعرف أن الإصابات الشديدة البالغة لا تحس الضحايا آلامها
وقت حدوثها. ورغبت أن أحرك أعضائي، وان أمر بيدي على جسمي، ولكن لم تسعفني
شجاعتي، وأشفقت من أن افقد عضوا فلا أجده، أو أن تغوص أصابعي في السائل
الساخن الذي يمسك علينا الحياة..
ولبثت ساكنا حتى يقضى القدر بما هو قاض، ومر الوقت في صمت رهيب، فلا
صراخ ولا كلام ولا انفجار. وعاودني الألم ولواحقه من الخوف والقلق... هل أمنى
النفس بانقشاع سحابة الهلاك ؟... أم تسقط علينا الشهب من جديد ويعقبها صفير الموت
؟... ومر الوقت ثقيلا – وعلى حين غرة انطلقت صفارة الأمان... رباه... انه شيء لا
يصدق... ما أحلاها... ما أجمل ترتيلها... ما أعذب سجعها . وصاح الشيخ مواهب: "
صلوا على النبي “، فصلينا من الأعماق، حتى جارنا أنيس منقريوس هتف بحرارة: " اللهم
صل عليك يا محمد " وحركت أعضائي فتحركت، وﻧﻬضت قائما لا أكاد اصدق...
رباه... إﻧﻬا الحياة تدب في من جديد، انه البعث من غير جدال، فوالله ما عرفت قيمة
الحياة كما عرفتها في تلك اللحظة... ولا لذﺗﻬا ولا سعادﺗﻬا، وفاض قلبي بفرح سماوي،
طربت له أعصابي جميعا، واندفع الناس في الثرثرة بغير حساب. لولا أن قطع علينا فرحنا
سماع صرخة أليمة. فامسكنا وتحولنا نحو مصدرها متطلعين، فإذا بالسيدة تحتضن طفلها
وتنظر إليه جزعة وتصيح: " أغيثوني... أغيثوني ... انظروا إلى رأسه “. ودنوت منها
ونظرت مع الناظرين، فرأيت في وسط الرأس فجوة مروعة يتدفق منها الدم كالنافورة،
ويسيل على حجرها أحمر قانيا. فجنت المرأة جنونا، وجعلت تلتدم وتشد شعر رأسها
بوحشية. وركض شاب يدعو الإسعاف. ولكن الشيخ مواهب اقترب منى وهمس في أذني
بصوت حزين: " واأسفاه ! ليس ثمة فائدة ترجى من استدعاء الإسعاف ... ولكني
أعجب كيف أصيب الطفل المسكين !"... فلم تتحول عيناي عن رأس الطفل، وقد لفني
الخوف ورانت على صدري الكآبة... وتساءلت متحيرا: كيف قتل الطفل ؟ لا شك أن
شظية اخترقت النافذة أو الحائط واستقرت في رأسه، وقد كان أينا عرضة لهذا المصير
المخيف، ولكنها اختارت الطفل وثكلت أمه التاعسة التي ما برحت تضمه إلى قلبها وتأبى
أن تصدق انه مات... وهكذا انتهت الغارة في مخبئنا الخاص.
لقد كانت تلك الليلة تجربة قاسية، ابتليت ﺑﻬا قلوبنا ومشاعرنا، وكان ختامها مأساة
تلك الأم التي ذبح وحيدها في حجرها...

القصة عند العقاد-نجيب محفوظ

كتبها:نجيب محفوظ
نشرتها:جريدة الرسالة
تاريخ النشر:أغسطس 1945

القصة عند العقاد

الفن – أيا كان لونه وأيا كانت أداته – تعبير عن الحياة الإنسانية , فهدفه واحد
وان اختلفت كيفية التعبير تبعًا لاختلاف الأداة , وكل فن فى ميدانه السيد الذى لا
يبارى , ففى عالم اللون التصوير سيد لا يعلى عليه , وفى دنيا الأصوات
الموسيقى سيد لا يدانى وهكذا , فالفنون جميعًا تتفق فى الغاية وتتساوى فى السيادة
كل بحسب محاله , وهى فى مجموعها تكون دنيا الأفراح والمسرات والحرية ,
حيث يعيش أبناؤها على وفاق ومحبة وتعاون , لا يكدر صفوهم مكدر إلا أن
يتصدى رجل كبير كالعقاد لدنياهم المطمئنة , فيرمى بحيرتها الساجية بحجر ثقيل
يطين رائقها , ويبعث الثورة فى أطرافها , فيقول : ان هذا اللون من الفن راق
وذاك منحط , هذا عزيز وذاك مبتذل , يقول هذا وهو أعلم الناس بالفنون , وأحبهم
لها , وأحقهم بأن يعرف لكل قدره ومنزلته . ولن يفيد الفن شيئًا من تحقيره لبعض
أنواعه , إلا أن يغضب قومًا أبرياء يحبون الحق كما يحبه ويولعون بالجمال كما
يولع به , ويبذلون فى سبيل التعبير عنه كل ما فى طاقتهم من قدرة وحب .
وعسى أن يقول قائل : إن العقاد ما قصد التحقير , ولكنه مفكر له الحق كل الحق
إن يرتب الفنون عامة أو فنون الأدب خاصة كيفما يرى .
هذا حق فى ذاته , ولكنى فى هذه القضية رأيت العقاد الخصوم يتغلب على العقاد
الناقد . انظر إليه وقد لاحظ حواريه (( فى بيتي العقاد )) صغر نصيب القصص
من مكتبته فأجابه قائلا : (( ... لا أقرأ قصة حيث يسعني أن أقرأ كتابًا أو ديوان
شعر , ولست أحسبها من خيره ثمار العقول )) . فالرجل الذى لا يقرأ قصة حيث
يسعه أن يقرأ كتابًا أو ديوان شعر بالحكم النزيه الذى يقضى فى قضية القصة .
والرجل الذى يلاحظ على مكتبته صغر نصيبها من القصة ينبغى أن تكون القصة
آخر ما يرجع إليه فى حكم يتصل بها . بل انه يفضل النقد – لا الشعر والنثر
الفنى وحسب – على القصة . والمعروف أن النقد ميزان لتقويم الفنون , فكيف
يفضل على أحدها ؟ ! وهل تنزل القصة هذه المنزلة عند شخص إلا إذا كان لها
كارهًا وعليها حاقدًا ؟ ! فحكم العقاد على القصة حكم مزاج وهوى لا حكم نقد
وفلسفة . بيد أنى أريد أن أتناسى ذلك , وأريد أن أنظر نقده بعين مجردة , لأن
لكلام العقاد قيمة خاصة عندى , ولو كلن مصدره المزاج والهوى
قال العقاد لصاحبه وهو يحاوره : (( ... إنني أعتمد فى ترتيب الآداب على
مقياسين يغنياني عن مقاييس أخرى , وهى الأداة بالقياس إلى المحصول , ثم
الطبقة التى يشيع بينها كل فن من الفنون ... ما أكثر الأداة وأقل المحصول فى
القصص والروايات ؟ إن خمسين صفحة من القصة لا تعطيك المحصول الذى
يعطيكه بيت كهذا البيت :
وتلفتت عينى فمذ بعدت عنى الطلول تلفت القلب إلى أن قال : (( أما مقياس
الطبقة ... فلا خلاف فى منزلة الطبقة التى تروح بينها القصة دون غيرها من
الفنون الخ ))
هذان هما المقياسان اللذان قضى بهما العقاد على القصة بالهوان وما هى القصة ؟
هى سيدة فنون الآداب دون منازع لثلاثة قرون خلت من أزهى عمر البشرية ,
هى الفن الذى جذب إليه أكبر عبقريات الأدب فى جميع الدنيا المتحضرة المثقفة .
فما حقيقة هذين المقياسين ؟
أما عن الأداة والمحصول , فالحق أنهما شىء واحد فى كل فن رفيع , ففى الشعر
الجيد كما فى القصة الجيدة تتحد الأداة والمحصول , وهذا يتفق ومعنى البلاغة
الذى يقول فيه الزيات : (( إنها هى البلاغة التى لا تفصل بين العقل والذوق ولا
بين الفكرة والكلمة ولا بين الموضوع والشكل )) . ذلك المعنى الذى أعجب به
العقاد أيما إعجاب ( الرسالة رقم 631 ) . ففى الفن الجيد – قصة كان أو شعرًا –
ينمحى التنافر بين الأداة والمحصول , فإذا زادت الأداة على المحصول فذلك شاهد
ضعف أو ركاكة قد يعتوران الشعر كما يعتوران القصة , ولكنه ليس صفة
ملازمة للقصة دون غيرها من فنون الأدب , فهذا المقياس نافع للتميز بين الجيد
والرديء من آيات الفن الواحد , لا للموازنة بين الفنون المختلفة , لأن كل فن فى
ذاته يشترط الانسجام الكلى بين أداته ومحصوله . إذا كيف يرى العقاد كثرة الأداة
وقلة المحصول صفة ملازمة للقصة ؟ ! لا أحد لذلك تفسيرًا إلا إذا كان العقاد يعد
التفاصيل فى القصة زيادة فى الأداة , وإلا إذا كان يعتبر القصة عم ً لا أدبيًا مطولا
ذا مغزى يمكن تلخيصه فى بيت واحد من الشعر . وهذا تفسير عجيب ان صح .
فالقصة لا ترمى لمغزى يمكن تلخيصه فى بيت من الشعر , ولكنها صورة من
الحياة , كل فصل منها جزاءًا من الصورة العامة وكل عبارة تعين على رسم جزء
من هذا الجزء , فكل كلمة وكل حركة تشترك فى إحداث نغمة عامة لها دلالتها
النفسية والإنسانية , وكل جملة – فى القصة الجيدة – تقرأ وتستعاد قراءتها ولا
يغنى عنها شىء من شعر أو نثر . ولا تحسبن التفاصيل فى القصة مجرد ملء
فراغ , ولكنها ميزة الرواية حقًا على فنون القصة الأخرى وفنون الأدب عامة .
وهى لم توجد اعتباطًا ولكنها جاءت نتيجة لتطور العصر العلمى العام , فالعلم هو
الذى وجه الانتباه للأجزاء والتفاصيل , بعد أن ركزته الفلسفة طوي ً لا فى الكليات .
اكتشف العلم لكل جزء من أجزاء المادة – حتى الذرة – حياة وأهمية , وبدت آثار
هذه النزعة العلمية فى عالم الآداب فى عناية الرواية بالتفاصيل , لم يعد الأدب
يكتفي بتحضير الأقراص المركزة , وأدراك أن التفاتة أو فلتة لسانية أو حال
إنسان وهو يتناول طعامه , كل أولئك أمور لها دلالتها النفسية وتعتبرها الصادق
عن الحياة . ومن عجب حقًا أن العقاد يعلم ذلك كله , وأنا أذكر أنه كتب مرة – لا
ادري متى ولا أين – عن توماس مان , فأشار إلى تفاصيله الدقيقة فى رواياته
وبراعتها فى الدلالة والتأثير , فكيف يساوى بيت من الشعر خمسين صفحة من
قصة ؟ بل هل نغالي إذا قلنا إن صفحة من قصة تحتاج لعشرات البيوت من
الشعر لتحيط بدقائقها وجمالها ؟ ! خذ مثلا هذا البيت من الشعر الذى استشهد به
العقاد (( وتلقيت عيني ... )) ولنفرض أننا نريد أن نستوحيه أقصوصة , فماذا
نصنع ؟ أما الشاعر فقد تصور المعنى وليس هو بالبعيد المنال وصبه فى هذا
القالب الجميل . أما القاص فينبغى أن يتصور إلى ذلك ذكرًا وأنثى , ويتخيل لكل
منهما نموذجًا بشريًا خاصًا , وعليه أن يصور زمانًا ومكانًا , وموقف وداع , تارة
محسوس تلتف فيه الأعين , وتارة معنوى يتلفت فيه القلب . فليس هذا العرض هو
نفس البيت ولا أكثر , ولكن العلاقة بينهما كالعلاقة بين الشجرة النامية ذات الزهر
والثمر والبذرة الضئيلة . لقد رمى بعض المتعصبين للأجناس العرب بضعف
الحيال والعجز عن الإبداع والتحليل والتفصيل والاكتفاء بتصور المعانى وتركيزها
, فهل يريد العقاد أن يؤيد هذه الأقوال الجائرة ؟ ! والواقع أن الإبداع الفنى لا
يتمثل فى عمل أدبي كما يتمثل فى ادب القصة . ولذلك اتخذ أغلب السفر الخالد
صورة من صور القصة كالملحمة والتمثيلية . هذا بعض ما يقال فى المقياس
الأول وأما المقياس الثانى , فهو مقياس الطبقة , يريد العقاد أن يقول : إن القصة
تنتشر فى طبقة لا يتنازل إليها الشعر , وإذا فالشعر أرقى من القصة . وهذا قول
وجيه من الظاهر ! ولكنه لا ينطوى على شىء خطير , فمجرد انتشار فن فى
طبقة لا يدل على شىء ما لم نبحث أسباب انتشاره . فالموسيقى تنشر فى جميع
الطبقات حتى بين الأميين , فهل يقال إن النحت مث ً لا أرقى منها لأنه لا يكاد يتذوقه
إلا رواد المتاحف ؟ ! ثم ما هى القصة المنتشرة حقًا ؟ أليست هى قصة الجريمة
والمخاطرة والغرام المبتذل ؟ وكل أولئك ليس من القصة الفنية فى شىء . القصة
الفنية – كما يعلم الدارسون لهذا الفن – حكاية تروى كالقصة المبتذلة , إلا أنه
يشترط فيها أن تعرض فى ثنايا روايتها قيمة إنسانية أو أكثر كتصوير الشخوص
وتحليل النفس والشاعرية والفكاهة والمعانى الفلسفية والآراء الاجتماعية , بل من
القاصين المحدثين من يستهين بالحكاية ويقنع بالقيم , فإذا خلت القصة من هذه القيم
, فهى حكاية وليست قصة فنية , ولا يجوز لمنصف أن يحكم بها على هذا الفن
وإلا جاز لنا أن نحكم على الشعر ببعض الأزجال الجنسية التى يحفظها العوام .
أجل إن القصة لا تزال أعظم انتشارا من الشعر ولكن أكان ذلك لسيئة فيها أم
لحسنة ؟ إن الخاصة التى تقرأ الشعر الرفيع وتتذوقه تقرأ القصة الرفيعة ونشغف
بها , وإذا كان العقاد لا يقرأ القصة إلا مضطرًا فطه والمازنى والحكيم وايزنهاور
يقرءونها بغير إضرار . ولئن انتشرت القصة فى طبقات أخرى فما ذلك لسيئة بها
ولكن لحسنتين معروفتين : سهولة العرض والتشويق فانتشار القصة الجيدة بين
قوم لا يهضمون الشعر الجيد مرده إلى أن القصة فى ظاهرها حكاية تروى
يستطيع أن يستمتع بها القارىء العادى لسهولتها وتشويقها . وليس بالسهولة من
عيب يجرح الذوق السليم ولا بالتشويق من انحطاط يؤذى الفهم الرفيع .

المجتمع و الرقى البشرى-نجيب محفوظ

كتبها:نجيب محفوظ
نشرتها:المجلة الجديدة
تاريخ النشر:نوفمبر1935

اﻟﻤﺠتمع والرقى البشرى

للإنسان قصة معروفة يرويها الطبيعيون وهي أنه فصيلة من الحيوان أخذت مكاﻧﻬا
بين الأحياء بعد جهاد عنيف وصراع مخيف قام بين الحيوان نفسه في بادىء الأمر ثم بينه
وبين الإنسان. وهو صراع يعتمد على القوة وحدها ويتخذ منها أداة لتحقيق غرض الحياة
إلا وهو بقاء الأصلح وفناء الضعيف الذي لا يقدر على احتمال بأساء العراك، صراع لا
يعرف غير الوحشية والقسوة لأنه لا غرض له إلا التفوق والفوز ﺑﻬبة الحياة.
استسلم الحيوان لهذه الحياة القاسية لأنه لا قدرة له على التفكير، فهو لا يقدر
مخاطرها، ويخضع لها خضوعًا غريزيًا وهو ما يزال يسير على سنتها، ينقرض منه ما ينقرض
ويتحكم ما يتحكم، أما الإنسان فكان له شأن آخر، فهو كما يقول الفيلسوف الإنجليزي
هوبز قدر هول الفناء الذي يعقب حتمًا عن استمراره في حياة التناحر ففكر في إﻧﻬائها
ووجد إلا سبيل إلى ذلك إلا بالاجتماع. فهو يمكن له من حياة يتحول فيها من الوحشية
والفردية أو من حياة الأسرة إلى حياة اشمل يشترك فيها مع غرباء في تحمل أعباء الحياة
وأول شرط لهذه الحياة الجديدة هو منع الاعتداء وحماية الأرواح في مقابل فروض كانت
فيما بعد أص ً لا للحقوق والواجبات.
على أن غرائز الإنسان المكبوتة وجدت لها متحو ً لا تبين أنه أشد خطرا وأعظم
فتكامن عراك الأفراد عنى به تناحر الجماعات، وهو الذي تطور من نزاع بين قبيلتين إلى
تطاحن بين أمتين، واستأنف قانون تنازع البقاء تحكمه في حياة الأمم وأخذت الأمم القوية
تسود والأمم الضعيفة تتخاذل وتفنى، وهو صراع بين القوى الجسيمة والمواهب النفسية
على السواء فكلنا يعلم ما تتطلبه الحرب من اختراعات وحيل هي آيات على التفوق
الذهني بل هي آيات على المتانة الخلقية من إدارة وإخلاص وشجاعة.
فالإنسان الاجتماعي ما برح كأخيه الطبيعي خاضعًا لقوانين الطبيعة التي خلقت
الإنسان من بين الحيوان، ولكن اﻟﻤﺠتمع خلق لنا قوانين أخرى أهمها جميعًا الأخلاق، لست
الآن بصدد مناقشة أصل الأخلاق وهل هو اجتماعي أم طبيعي أم الهي، فآيا كان الرأي
فأنه لا يمكن تصور أخلاق من غير مجتمع، فاﻟﻤﺠتمع على كل حال هو المكان الطبيعي لنمو
الأخلاق سواء أكان علتها المفردة أم علتها الجزئية أم كان الظرف الممهد من غير اشتراك
فعلى.
إذن فقد تعلم الإنسان الأخلاق في اﻟﻤﺠتمع. والأخلاق منها المحلى الذي يتميز به بلد
عن بلد ومنها العالمي الذي يدين به جميع البشر. فالأخلاق من هذه الناحية رابطة عالمية
تربط الإنسان بأخيه الإنسان وتوجه عقله إلى التفكير في الإنسانية و إلى تجاوز الحدود
الاجتماعية وهذا يمهد إلى تطبيق القواعد الأخوية المحلية على اﻟﻤﺠتمع الانسانى الكبير وخلق
الآداب الإنسانية العامة، فإذا أضفت إلى ذلك اتصال اﻟﻤﺠتمعات عن طريق تبادل الآراء
والثقافات والرحلات أمكنك أن تلمس الأسباب التي مهدت لوجود هذه الأخلاق
الإنسانية العالية التي تناهض مباديء الطبيعة القاسية مناهضة تامة بعد أن ناهضتها المباديء
الاجتماعية مناهضة جزئية، تلك المبادئ التي لا تتفق مع تنازع البقاء وبقاء الأصلح المبادئ
التي تقوم على المحبة والسلام وتدعو للضعيف كما ندعو للقوى، و قد دعا إلى هذه
الأخلاق وبشر ﺑﻬا أنبياء وقديسون واعتبروها كمال الكمالات وملاذ البشر من الهلاك
والفناء والشر وسبيله إلى السعادة والسمو.
ولكن قد يقال إذا كانت هذه الأخلاق التي تتكلم عنها تناهض الطبيعة، وقوانينها
تلك القوانين التي أبدعت الإنسان أكمل المخلوقات، فالمعقول أنه لابد أن ينتج من حلها
محل قوانين الطبيعية وقف التقدم البشرى وجمود التطور عند الإنسان، بل ليس الأمر مجرد
توقف عن السير إلى الأمام ولكنه تدهور لا محيد عنه لأن الأخلاق تمكن للضعفاء وتساوى
بينهم وبين الأقوياء وهم ولا شك أوفر عددًا وأعز نفرا فيتغلب عنصرهم، ويكتسح
نسلهم على حساب المتفوقين الذين ينقرضون شيئا فشيئا لضمور مواهبهم ومزاياهم.
فالأخلاق إذا نذير بالقضاء على الكمال والقوة وبشرى للضعف والشر ومابينها من رذائل
طبيعية، أن صح لنا أن نقول ذلك.
ومن هنا نشأت فلسفة نيتشة فقد فرق بين نوعين من الأخلاق أخلاق السادة
وأخلاق العبيد. وقال أن أخلاقنا التي يقومها التهذيب والرحمة والمساواة هي أخلاق تسود
الضعفاء وتمكن للضعف وتثبت أقدام العبودية. ووجه لذلك حملات شداد إلى البوذية
واليهودية والمسيحية والديموقراطية واعتبرها أطوارا متتابعة لأخلاق العبودية، وقال أيضًا أن
الإنسانية حلقة من سلسلة لا يرى طرفها وليست حدًا وﻧﻬاية وكما خرج الإنسان من
الحيوان فمنطق التطور يسلم بإمكان خروج أنسأن أعلى من الإنسان الحالي على شرط أن
يترك التطور وشأنه ليعمل تبعًا لقوانينه الطبيعية أما الأخلاق فهي عقبة كؤود في سبيل هذا
التطور.
ولكن التضاد بين الأخلاق وقوانين الطبيعة لا يتعدى الظاهر أو قل أنه تضاد في
الوسيلة دون الغاية من قوانين الطبيعة هي الكمال والقوة في العقل والجسم فأن اﻟﻤﺠتمع لا
ينكر هذه الكمالات والأخلاق لا تثور عليها ثورﺗﻬا على قوانين الطبيعة القاسية فالقوة
العقلية والجسمية من الفضائل الاجتماعية ومما تزكيه الأخلاق مادام موجها في سبيل الخير
والصالح العالم.
أفليس لو كانت الأخلاق تضاد قوانين الطبيعة في الوسيلة والغاية لكانت تذم غايتها
ولا ترضى عنها وتنبذ من يحوزها ؟ فالحق كل الحق أن الأخلاق تقصد إلى الكمال
وتتوخى طريقه والحق كذلك أن اﻟﻤﺠتمع يطلب هذا الكمال لأنه هو الذي أبدع الأخلاق
أو على الأقل لا يمكن أن تتناقض آماله مع آمالها إلا أنه لا يتخذ من الوسائل ما تتخذ
الطبيعة وإذا اتخذ شيئا من وسائلها فهو يهذﺑﻬا ويقيدها.
يبقى سؤال وهو كيف تنبذ الأخلاق قوانين الطبيعة وتعمل في نفس الوقت على
تحقيق غايتها ؟وهو من الأسئلة التي شغلت بال كثير من الفلاسفة الذين مهدوا للأخلاق
الاجتماعية مثل سبنسر ورودلف جيرنج ووسترمارك: يرى سبنسر مث ً لا أن الحروب تفنى
الشعوب وتقضى على كل ما فيها من خير وشر. ويلاحظ من ناحية أخرى أن السلام
يكثر الضعفاء ويسلطهم على اﻟﻤﺠتمع مما تكون نتيجته الحتمية تسلط آداﺑﻬم بما فيها من
خور وجبن ولكنه وجد أن العدالة توفق بين الحالتين وتحمى السلم من شر الضعف
وتسلطه و تمهد السبيل للأخلاق لبلوغ الكمال الذي تتوخاه القوانين الطبيعية لأﻧﻬا تعطى
كل ذي حق حقه وتضع كل أنسأن موضعه فتطهر الأخلاق من الضعف الذي قد يسوق
إليه المبالغة في إتباع بعض قواعدها كالمساواة و الرحمة، فقد يكون من الرحمة مث ً لا أن
تضحى بحياتك في سبيل شيخ فأن ولكن العدل لا يقضى ﺑﻬذه التضحية. وقد توجب
الرحمة العفو عن كثير من اﻟﻤﺠرمين ولكن العدالة تأخذهم بالشدة اللازمة لتطهير اﻟﻤﺠتمع.
فالأخلاق تحمى نفسها بنفسها تأمر بالرحمة كما تأمر بالقسوة وبذلك تضع كمال
الطبيعة نصب عينيها من غير أن تلجأ إلى وسائلها البدائية.
وفرق بين الكمال الذي يتوخى غايته اﻟﻤﺠتمع وبين الطبيعة التي تريد الأقوى من غير
قيد و لا شرط، فالقوى بجسمه وبعقله هو الذي يستحق في نظرها، نعمة الحياة وتحفظها
له مهما كان حظه من القسوة والشر كبيرا، واﻟﻤﺠتمع يريد القوى أيضًا في الجسم والعقل
ولكنه يشترط أن يكون كذلك قويا في خلقه ولأتناقض بين هذه الأحوال جميعا، مادام
تنظمها العدالة وتوجهها إلى سبيل الخير فالقوى يحكم في اﻟﻤﺠتمع ولكنه لا يقتل الضعيف
بل أن من مزايا قوته أن يترفع عن منازلة من هو اضعف منه ويرى من واجبه أن يدفع عنه
الأذى ويأخذ بيده في طريق الحياة الوعر.
وثمة فرق آخر هو أن الطبيعة تسير الحيوان في الطريق الذي تريد بغرائزه وهو يطيعها
غير دار بمقصدها ويرضخ لها رضوخًا آليا لا تقدير فيه فآماله لا تتعدى الطعام والأنثى
والمسكن أما الرجل الاجتماعي فله ضمير حساس يقدر به نفسه ومن حوله ويعرف أن له
غاية يعمل لها وأنه يسعى لبلوغ مث ً لا أعلى وما الطعام والأنثى والمسكن إلا وسائل لغايات
عليا يحيا لها. فالحياة الاجتماعية الخلقية لا تعوق عن الكمال وهي فوق ذلك تخلق للفرد
شخصية خلقية يجب أن نعدها كسبًا له من الوجهة الإنسانية.
وعندي أن اﻟﻤﺠتمع يزود الفرد بعواطف كثيرة تحثه على الرقى والسمو فالفرد اذا
وجد بين أفراد اختلجت في قلبه عواطف الأثرة وحب السيطرة والتفوق مما يدفعه للعمل
على الظهور والفوز، واﻟﻤﺠتمع كذلك يعبد الأبطال عبادة في الحياة وفي الممات ويضيف
إليهم من الفضل ما هو حق أن يضيف إليهم وما هو عدل أن يضاف إليه وهو وكل ذلك
يغرى بالبطولة والكمال.
ولكن ما الرأي في شرور اﻟﻤﺠتمع ؟ حق أن شرور اﻟﻤﺠتمع لا تحصى وقد كانت
موضع نقد وتشاؤم كثير من المفكرين حتى ذهب بعضهم إلى حد الدعوة إلى الحياة
الطبيعية و لكن الكمال التام كان دائمًا ولكل وجه من الفساد خير يقابله ولقد جاهدت
الأخلاق كثيرا وما تزال تجاهد في سبيل الإصلاح فلا معنى لليأس، و يجب ألا نجعل لليأس
سبيلا إلى نفوسنا حتى لا تسود الحياة في أعيننا ويملأ قلوبنا التشاؤم فنخسر ﺑﻬجة الحياة
ومسراﺗﻬا.
والحق أن ذم اﻟﻤﺠتمع لشروره يدل على عدم تقديرنا للخير الذي ظفرنا به في اﻟﻤﺠتمع
وليصح أن هذه الشرور ضرورية للحياة الاجتماعية – وهذا غير صحيح – لوجب أن
نقبلها كثمن للحياة في اﻟﻤﺠتمع لا أن ننبذ اﻟﻤﺠتمع من اجلها، وخلاصة القول أننا يجب أن
ننظر إلى اﻟﻤﺠتمع كما ينظر المؤمن إلى ربه وقد تصيب المؤمن الشرور ويعلم أن الله أصابه
ﺑﻬا ولكنه لا يذم الله بل يشكره ويرجو منه خيرا عاج ً لا يعوض عليه شرا آج ً لا وليس ذلك
بكثير فاﻟﻤﺠتمع هو الذي خلق لنا أكمل ما في أنسانيتنا وهو سبيلنا إلى الرقى والكمال.
وليذكر الذين يقولون أن الطبيعية تخلق لنا الغرائز والمواهب أن هذه المواهب ما كانت
تخلق العلم والأدب والفن لولا اﻟﻤﺠتمع على أن ذلك يجب إلا يخدعنا عن حقيقة مهمة وهي
أنه إمامنا عمل جليل خطير يتطلب الأجيال الطويلة والتجارب الكثيرة لخلاص الإنسانية
وكمالها.

ماذا تعنى الفلسفة-نجيب محفوظ

كتبها:نجيب محفوظ
نشرتها:المجلة الجديدة
تاريخ النشر:فبراير1935

ماذا تعني الفلسفة ؟

كانت الفلسفة بوجه عام علم الشمول الذي لا يحدد، علم كل شئ، وبمعنى أدق
علم القوانين العامة التي تسير الأشياء جميعا، حتى ضيق التجريبيون ميداﻧﻬا وجعلوها كعلم
من العلوم الخاصة وحدد لها موضوعها هو الأفكار أو الحياة النفسية للفرد فلما جاء كانط
بذلت مجهودات قوية للتوفيق بين فكرتي الشمول والتخصص.
وقد وقف كانط من مذهبي التجربة والعقل موقف الحذر ولم يسلم لواحد منهما
بدعاويه العريضة: لم يسلم للمذهب التجريبي بأنه وفق إلى تحديد ميدان المعرفة الإنسانية.
حق أن معرفتنا تبدأ بالتجربة ولكن ليس معنى ذلك أﻧﻬا تشتق كلها من التجربة فقد تكون
المعرفة التجريبية نفسها ليست من خالص التجربة ولكن مما يضيفه العقل إلى آثار الحواس
ومنعكساﺗﻬا أي قد تكون نتاج عمل العقل وتأليفه بين الصور الحسية المنقوله إلينا.
ويمكن الاعتراض على ادعاء المذهب التجريبي بمسألتين: أولا وجود قضايا عامة
بالعقل لا تمت إلى التجربة بصلة ما، ولا يمكن تفسيرها عن سبيل التجربة، مثال الأفكار
الرياضية البديهية، ثانيا أن لهذه الأفكار العامة قوة وجوب ضرورية تجعلها مستحيلة
التصور على غير ما هي عليه. والتجربة لا تبرر هذا الوجوب الضروري، بل أن المعرفة
التجريبية نفسها لا تبلغ درجة اليقين من غير معونة هذه القضايا الضرورية أو من غير
العقل الذي يبدع لها صفة الضرورة ومثال ذلك خذ أي قانون مأخوذ من التجربة وليكن
قانون سقوط الأجسام فأن قولنا كل الأجسام تسقط نحو الأرض لا تبرره التجربة لأﻧﻬا
مهما امتدت وتعددت فلن تشمل كل الأجسام. وقصارى الجهد أن يجرﺑﻬا الفرد على
عشرات أو مئات الأجسام فإذا أعطيناها هذا الشمول وأكسبناها صفة الوجوب
والضرورة فإنما نعطيها ذلك ونكسبها هذا بقوة أخرى غير التجربة، وعلى ذلك فمعرفتنا
تحوى من الأصول مالا يمت بصلة إلى التجربة.
كذلك لم يسلم للمذهب العقلي بادعائه حصر المعرفة في العقل وبأن المبادئ
العقلية هي أصل كل معرفة إنسانية صحيحة، وقد بشر ديكارت بذلك ونبذ كل معرفة
لا ترجع في ﻧﻬايتها إلى الأفكار البسيطة البديهية وجهل مهمة الفلسفة الأولى اكتشاف هذه
الأفكار ثم استنتاج العلم الإنساني كله منها على الطريقة الرياضية.
وقد اعترض كانط على هذا الأسلوب من التفكير وفرق بين الرياضة والفلسفة
تمهيدًا إلى تقرير هذه النتيجة وهي أن المعرفة الإنسانية لا تنحصر في مبادئ العقل وأﻧﻬا
تكسب الكثير من التجربة، فالرياضة في مجموعها ترجع إلى مبادئ عقلية بسيطة يركب
منها العقل ما يشاء وهي صحيحة مادامت تنظر إليها بعين العقل.
وهذا لا يمنع موافقتها للتجربة لأننا لا نقول أن العقل يخالف الواقع. أما الفلسفة
فمبادئها أفكار كالعلة والمعلول والجوهر. وهذه تحتاج في تصورها إلى المشاهدة والواقع،
وعلى ذلك فالمعرفة ليست ملكًا للتجربة ولا ملكًا للعقل وإنما هي بين بين، وموضوع
التي تسيطر على المعرفة والعمل a priori الفلسفة عند كانط هو تحديد الأفكار العقلية
وبيان تسلسلها وخلق نظام تام منها.
والفلسفة نظرية وعملية. النظرية تحدد موضوعًا أي تبين طبيعته وقوانينه والعملية
تحققه، وهي عموما – نظرية وعملية – مجردة وتجريبية، مجردة من حيث أﻧﻬا تقوم على
مبادئ فوق التجربة وتجريبية من حيث أﻧﻬا تجرد مبادئها من التجربة.
أما الفلسفة النظرية اﻟﻤﺠردة فهي الفلسفة بمعنى الكلمة وهي تنقسم إلى قسمين: من
حيث أﻧﻬا تدرس قوانين الفكر العامة وهي ما يعرف بالمنطق، ومن حيث أﻧﻬا تدرس علاقة
الفكرة بالأشياء وهذه هي الميتافيزيقا وهي علم القوانين الفكرية العامة المطلقة من حيث
علاقتها بالأشياء، وكانت عند كانط تؤدي وظيفتين، واحدة تمهيدية وهي النقد أهم ما
يغلب على فلسفته. والأخرى هي تسلسل القوانين العامة بما يمهد إلى إبداع النظام
الفلسفي.
وأما الفلسفة العملية أو الأخلاقية فهي مجردة وتجريبية، مجردة غايتها معرفة قوانين
العقل للحرية أي قانون الواجب، وتجريبية وتبحث في قوانين الحكمة والحقوق.
ولكن أهم وظيفة للفلسفة هي النقد، فبالنقد استطاع أن يمحص المذاهب
الفلسفية السابقة. ويقصى عنها المبالغات والادعاءات المتطرفة لينتهي بإنشاء فلسفة قوية
تعد من أمتن المفاصل في هيكل الفلسفة العام.
***
وبعد كانط نزع الفلاسفة نزوعًا من شأنه أن يعيد الفلسفة شمولها شيئا فشيئا ولو
أﻧﻬم احتفظوا لها بشخصيتها كعلم متميز، وكان فخت أول من فكر في إيجاد علم للعلوم،
كان يفهم معنى العلم فهما جيدًا وكان يرى أن لكل علم مادة وصورة. والمادة هي
موضوع العلم والصورة هي منهجه المنطقي كالقياس في العلوم الرياضية والاستقراء في
العلوم الطبيعية. والعلم يستقرئ الوقائع ويستنتج القوانين ويبدع النظريات ولكنه لا يحفل
بتحديد موضوعه ولا منهجه فلا يسال مثلا لماذا كان موضوعه ما هو كائن ولا ما هي
الصلات التي تربط هذا الموضوع بغيره من موضوعات العلوم الأخرى، ولا لماذا يناسبه
نوع من التفكير دون سواه، فالعلم الذي يبحث مواضيع العلوم ومناهجها هو الفلسفة،
وبذلك يشمل كل العلوم ويتخصص في بحث موضوع خاص به.
ولكن إذا كان له موضوعه ومنهجه فهو يحتاج بدوره لعلم يدر سهمًا كما يدرس
هو مواضيع ومناهج بقية العلوم، ولكن منعًا للتسلسل إلى غير ﻧﻬاية رأى فخت أن يعهد
بدراسة موضوع الفلسفة ومنهجها إلى الفلسفة نفسها فتكون بذلك هي العلم الأول أو
علم المبادئ وذلك يرجعها إلى تعريف أرسطوطاليس.
***
احتفظ شلنج وهبجل للفلسفة بما ميزها به كانط وفخت من أﻧﻬا علم القوانين
العقلية المطلقة أو علم العلوم ولكنهما زادا إلى شمولها هذا شمولا جديدًا في الموضوع ويفسر
ذلك ويستتبعه رأييهما عن وحدة الوجود، فهما يريان أن الذات والموضوع والواقع
والمثال والطبيعة والنفس تحدد ذواﺗﻬا في المطلق أو الفكر. وليس هنا موضع شرح المغلق من
هذه الفلسفة فلنكتف بالقول بأن ذلك معناه أن الوجود المتباين متحد بالذات في الفكر
وأمامنا سبيلان لإثبات هذه الذاتية الواحدة، فأما أن نبدأ بالموضوع والواقع والطبيعة
لنثبت أﻧﻬا وما يقابلها من الذات والمثال والنفس شئ متحد في الفكر أو العكس. والفلسفة
تعني ﺑﻬذين السبيلين لمعرفة وحدة الوجود فيتحتم أن يشمل موضوعها كل الوجود وبذلك
يتم إرجاعها إلى سابق حالها على أيام أرسطو، على أن ذلك لم يمنع وجود بعض آراء
معاصرة رجعت في تصور الفلسفة إلى ما كان يتصورها به لوك من أﻧﻬا علم النفس كرأي
ريد ودوجالد ستيوارت.
***
رأى كوزان عن الفلسفة لا يتعدى رأي فخت أو هيجل وتم له رأيه على درجتين
فقال في سنة 1818 أن كل حقيقة تحوى ما يرفعها إلى مرتبة الحقائق وكل علم فيه
الخواص الفردية ما يميزه عن بقية العلوم ومن الصفات العالية ما يكسبه مميزات العلم، فما
الحقيقية ؟ وما العلم ؟ هذا هو موضوع علم العلوم أو الفلسفة.
وفي سنة 1828 رأى أن الفلسفة اشمل من ذلك وأوسع، فقال أﻧﻬا علم الفكر أو
هي الفكر يفكر في نفسه وما يحويه من عناصر الحقيقة. فتنصب بذلك على المنطق
والأفكار النافعة والعادلة الجميلة لأﻧﻬا جميعًا ترجع إلى الفكر.
أما جوفروى فكان يرى أن الفلسفة تنحصر مسائلها في أسئلة يوجه بعضها إلى
الأشياء ويوجه البعض الآخر إلى القوانين العامة، ولكنه لم يكن يعتبر هذه القوانين إلا من
حيث علاقتها بالأشياء من حيث أﻧﻬا ﺗﻬيئ لها الحلول، فكل مسألة فلسفية تجد حلها في
قانون عقلي أو نفسي فمرجعها في النهاية علم النفس.
***
أما الوضعيون فيرون أن زمن الفلسفة قد مضى كأﻧﻬا ليست أسلوبًا جوهريا في
تفكير الإنسان وإنما حالة طارئة تلابس الفكر في طور من أطواره ثم تضحي من التقاليد
الزائدة بعد مضي ذلك الطور، يقولون أن الفلسفة بمعناها الحقيقي لا وجود لها في ميدان
المعرفة الإنسانية الآن، وجدت وكان وجودها ضرورة أيام كانت عناصر التجربة
الإنسانية العملية محدودة في متناول الباحثين المتفرغين. أما اليوم فقد أنقسم العلم إلى علوم
وتفرع كل علم إلى فروع وقام كل واحد من هذه الفروع على أساس إقصاء الأسئلة
الميتافيزيقية عن ميدانه.
أضف إلى ذلك أن الميتافيزيقا في أوج مجدها لم تصل أبدا إلى حقائق مؤكدة لا
يأتيها الشك من منفذ. وهي ما تزال كل يوم آخذة في تقرير من مناهجها من غير أن
تنتهي إلى حل. وفي مقابل ذلك نجد فرعًا من فروع المعرفة – وهو العلم الوضعي – يصل
إلى حقائق يقينية. يبنيها على تجارب حقيقة بالثقة والإقناع. مما يبرر الرأي القائل أن العقل
البشري لم يوجد لحل المسائل الميتافيزيقية التي تستعصي عليه وأن كان في مقدوره أن
يبحث المسائل العملية ويبلغ من بحثه أوثق النتائج.
وإذن فالعلم لا يبحث عن المطلق فهو نسبي. ولكنهم لم يقرروا نسبية العلم بالنقد
العقلي وإنما استنتاجًا من تاريخ العلم الإنساني. قالوا أن العقل البشري قبل أن ينتهي إلى
الحالة الوضعية مرّ بحالتين لاهوتية وميتافيزيقية، ففي الحالة اللاهوتية يترع العقل إلى
الكشف عن ماهية الأشياء والعلل الأولى، ويفسر الظاهرات بقوة فوق الطبيعة، وفي
الحالة الميتافيزيقية نجد تغيرا ظاهرا في تصوره، فالقوة الشخصية المميزة يستبدل ﺑﻬا قوى
مجردة توجد في مختلف الظاهرات وتحدثها، أما في الحالة الوضعية فهمه الأول أن يدرس
الظاهرات وتسلسلها ويستكشف قوانينها.
***
من خلاصة الآراء في الفلسفة نفهم أن معناها تردد بين أن تكون علم العلوم، أو
علم القوانين العقلية المطلقة للفكر والوجود أو علم النفس الإنسانية فتتميز عن العلم إذن
بدراستها النفسية ومن هنا كان علم النفس، وبفكرة الشمول والتوحيد بين الأشياء ومن
هنا نشأت الميتافيزيقا، وقد ترجمت الفلسفة بين هاتين الفكرتين في جميع العصور حتى
حاول كانط أن يوفق بينهما، فوجد – أثناء تقيده للنفس – القوانين العقلية المطلقة، أما
من حيث الرد على المذهب الموضوعي فحسبنا أن نقول أن موضوع الفلسفة غير موضوع
العلم، وهذا يبرر دواعي وجودها ولا يجعل من نجاح العلم في مناهجه دليلا على بطلان
موضوعها أو فساد أساليبها ونجاح العلم وبلوغه أكمل النتائج لا يشفي عليل النفس
الإنسانية المتعطشة إلى العرفان. حقًا أن في العلم نورا ومنافع للعلم ولكن كل هذا لا يقنع
العقل بل يبقى متطلعًا صوب أسئلة أخرى تحيره وتغريه بالبحث، وهذه الأسئلة التي تنبع
من صميم النفس هي التي تكفل وسوف تكفل بقاء الميتافيزيقا.
بل أن العلم نفسه ظاهرة حقيقة بالبحث والتأمل كيف ينشأ العلم وما هي دواعيه
وأغراضه، وكيف تقرر له المناهج المختلفة، كل ذلك يتطلب علمًا يبحث العلم من
نواحيه المختلفة، ثم أنه لا يكفي أن نعرف الظاهرات ونربطها بمختلف القوانين فهنالك
مسألة لا تقل عن ذلك في أهميتها وأحقيتها بالمعرفة وهي ما قيمة هذا المعرفة ؟ أننا لا
نعرف شيئا ولا نستنتج أمرا إلا عن طريق الفكر فهل تكون معرفتنا مطابقة الواقع والحق
أم أﻧﻬا أوهام من صنع فكرنا ونحته ؟ بل أين الدليل على أنه يوجد حق واقع وتصور ذاتي
لا يتجاوز أمره الفكر ؟ كل ذلك يحتاج إلى علم يبحثه ويقرر الحق فيه.
الفلسفة رهن هذه الأسئلة وهي لذلك باقية ما بقيت هذه الأسئلة وما بقيت النفس
التي توقظها.

الشعور-نجيب محفوظ

كتبها:نجيب محفوظ
نشرتها:المجلة الجديدة
تاريخ النشر:يونيو 1965

الشعور

يعني الشعور في علم النفس معرفة النفس لذاﺗﻬا ويكاد أن يكون شرطًا جوهريًا في
كل حالة نفسية، وهو، لأنه ملازم لأغلب الظاهرات، ولأنه مألوف لدي كل أنسأن لم
ينتبه إليه الأوائل لأنه ككل أمر بديهي يستدعي نضوجًا كبيرا حتى يلتفت إلى دراسته.
والفلاسفة المعروفون بالطبيعيين لم يوجهوا أبحاثهم ناحية الفكر، وساروا في سبيل
دراسة الطبيعة الخارجية غير شاكين في مقدرة العقل، ولا مطمئنين إليه اطمئنان العالم
المخفق، ثم أخذوا ينتبهون إلى النفس بدليل أﻧﻬم ميزوا بين الروح والمادة وتكلموا عن عقل
شامل لهذا الكون، وهذا التصور للوجود ينبئ عن يقظة إلى الشعور بالنفس وملكاﺗﻬا.
وتستبين هذه اليقظة بصورة أوضح عن السوفسطائيين لأﻧﻬم آمنوا بوجود العقل الإنساني
وبحثوه من نواحي كثيرة بل جعلوه أساسًا للمعرفة فقالوا بنسبية العلم وبأنه يتوقف على
العالم.
وتوج سقراط هذا التطور نحو معرفة الشعور فقال اعرف نفسك بنفسك وإن كان
يريد من تلك المعرفة أن يهتدي إلى قواعد المنطق والأخلاق.
وقد أنتبه أفلاطون إلى ظاهرة الشعور ولكنه كان انتباهًا عارضًا في أثناء دراسته
للاحساسات المتناقضة فهو لم يطلق عليه إسمًا خاصًا ولم يوقف عليه محاورة من محاوراته
الفلسفية ولكنه اقترب كثيرا من المعني الحديث للشعور وعندما ميز بين نوعين من
التأثرات، تأثرات تقضي عند الأعضاء وأخرى تصل إلى النفس، فالمعقول أن وجه التفرقة
يقوم على أن الأولى لا نشعر ﺑﻬا وأن الأخرى نشعر ﺑﻬا.
وكذلك أرسطوطاليس لم يسمه ولم يفرغ له موضوعًا خاصًا ولكنه عني بوصفه في
أثناء دراسته للعقل والحواس، وما يستخلص من رأيه عن أن الشعور ليس ملكة خاصة
مستقلة عن الظاهرات بل هو غير منفصل عنها فالعين عندما تبصر تحس بأﻧﻬا تبصر والعقل
عندما يتصل بموضوع يشعر بأنه يفكر وهكذا.
والرواقيون هم الذين أطلقوا على الشعور اسمه المصطلح عليه في الفلسفة
السيكلوجية، وقد عرفوه بأنه حاسة تعرف ﺑﻬا النفس ذاﺗﻬا ولما كانت جميع الحقائق عندهم
مادية فقد تصوروه كاللمس إلا أن موضوعه باطني، وأضافوا إليه وظيفة خطيرة في المعرفة،
ذلك أن العلم هو عملية نفسية لهضم الأشياء التي تتصل بالعقل، ونحن لا نستطيع أن نبلغ
اليقين فيما نعلم من العلم إلا إذا وجهنا شعورنا نحو هذه العملية وتأكدنا من سلامتها،
فيقين الشعور أساس لكل يقين عملي.
وتكاد أن تكون قيمة الشعور ثانوية في صوفية الافلاطونية الحديثة، وهي تقرر أن
النفس تعرف ذاﺗﻬا وتفسر ذلك بأن النفس البشرية متصلة بالنفس الكونية والعقل الكوني
لأﻧﻬا في الأصل هبطت منهما، والعقل يعرف نفسه، ومن هنا اكتسبت النفس البشرية منه
هذه الصفة، والشعور الذي يمكن النفس من الإحساس بذاﺗﻬا لا يسمو ﺑﻬا إلى معرفة الله
مع أن الصلة بينهما غير منقطعة فلماذا ؟ ذلك أن النفس مكبلة بأغلال الجسم، وأن الخيال
يبعث بالشعور فلا سبيل إلى الله إلا بالتخلص من أوهام الشعور والحواس والجسم وممارسة
الفضائل، فمعرفة الله فناء فيه إذ ينعدم فيها الشعور.
وهذا تقدير صوفي ولاشك، لأن الصوفي لا يهنأ خاطره حتى يفني في الله وينسي
نفسه من ضمن ما ينسي من الاحساسات والشهوات أما عند الفلاسفة فالشعور له قيمة
أخرى، لأنه الإحساس المباشر بالعالم النفسي وقد كان " عامة اليقين التي آوي إليها
ديكارت بعد حيرة طويلة في غمرات الشك، لأنه بدأ فلسفته بالشك في كل شيء داخل
النفس أو خارجها، ولكن مغالاته في الشك أرغمته على اليقين في الحقيقة أولى وهي أنه
يشك، فلا سبيل إلى الشك في أنه يشك ومعني الشك أنه يفكر فهو إذن يفكر، ولما كان
لا بد للفكر من مفكر فهو إذا موجود، فشعوره بالشك أو الفكر هو الذي هداه إلى
اليقين ومكنه من أنشاء فلسفته، ولم يكن يرى في الشعور ملكة خاصة تختص بعمل خاص
وإنما هو يلازم جميع العمليات النفسية وهذا ما يفهم بداهة من أن هناك شعورا بالفكر لأن
الفكر عند ديكارت هو ماهية النفس فالإدارة والحس والعواطف من الفكر والذي يشعر
بالفكر يشعر بجميع هؤلاء.
ومما يجب ذكره هنا أن مليرانش تلميذ ديكارت لم يقدر الشعور تقدير أستاذه
لأنه كان يراه أقرب إلى العاطفة منه إلى المعرفة فهو يجعلنا نحس بالنفس ولا نعرفها معرفة
واضحة، وهو لا ينكر أن الشعور يقيني ولكنه غامض مع ذلك.
ولكن استرد الشعور مقامه في الفلسفة على يد " ليبنتز " لأنه كان في ﻧﻬاية الأمر
أساس فلسفته، فأنه لما اقتنع بأن حقيقة الوجود تتلخص في حقيقة الجواهر أو الذرات،
ووجد أن هذه الجواهر قوى وأن النفس أيضًا قوة رجع إلى النفس يكشف فيها عن حقائق
الذرات التي يتركب منها الوجود، ومن هنا جاءت أهمية الشعور عنده، ولم تكن مهمته
مقصورة علي معرفة ظاهرات النفس ولكنه يتعداها إلى معرفة الماهيات الكامنة في
الظاهرات.
وقد درس ليبتز حالة اللاشعور، فقال أنه يوجد عدد لا متناه من الإحساسات التي لا
نشعر ﺑﻬا إما لدقتها وتكاثرها بحيث يتعذر التمييز بينها وإما لاتحادها فلا ندركها فرداي،
وهذا يفسر لنا عدم الشعور الذي تحدثه العادة والألفة، كما أن إليه يرجع السر في الأذواق
المختلفة والحالات النفسية الحز نية والسارة التي تتعثر الإنسان دون أن يستطيع لها تعليلا.
وبقي دور الشعور خطيرا عند لوك، لأنه كان يعتقد أن التجربة أصل كل معرفة،
وأن منها الإحساس وهو الذي يحمل إلينا آثار العالم الخارجي، ومنها التأمل الباطني أو
الشعور وهو يحمل إلينا آثار العالم الداخلي، فجميع أفكارنا نتاج للإحساس والشعور
ولكن يوجد من الأفكار ما هو مركب معقد كأفكار العلة والمدة وهذه لا يكفي الشعور
في تكوينها، بل أن عمل الشعور هنا والإحساس أن قدما الأفكار البسيطة التي تركب
منها النفس ما هو أعقد منها. فإذن الشعور لا يعرف الماهيات، وهذا ما ذهب إليه
فيلسوف آخر من فلاسفة المدرسة التجريبية الإنجليزية وهو دافيد هيوم، فعنده أن الشعور
لا يعرف إلا ظاهرات النفس وأما ما نسميه بالحقائق النفسية كالعلة والجوهر فهي أوهام
يخلقها تداعى الأفكار والمعاني.
رأينا حتى الآن أن من الفلاسفة فريقًا يرون في الشعور حاسة لمعرفة حقيقة النفس
وماهيتها، وفريقًا يرون قدرته مقصورة على معرفة ظاهرات النفس وأنه لا يوجد داخليتنا
إلا ظاهرات مطردة وجميع الماهيات أوهام، وفلسفة كانط النقدية تحاول أن توفق بين
هاتين الفلسفتين المتنافرتين فتقول أن الشعور لا يعرف النفس في ذاﺗﻬا بل يعرف ظاهرات
فقط، فالنفس حقيقة موجودة ولكننا لا نعرفها إلا كما تظهر لنا فهو لا ينكر وجود
الماهيات ولكنه لا يزعم أنه يستطيع معرفتها كما هي ولا ينكر الظاهرات ولكنه لا يقول
بأﻧﻬا كل ما يوجد.
ولكن كيف تبدو لنا الحقائق على غير ما هي عليه ؟
ذلك لأن الإحساسات التي تحمل لنا آثار العالم تترابط وتتحول إلى معرفة خلال
قوانين العقل، فالعقل يشترك في تكييف الحقائق، وإذن فنحن لا ندركها في النهاية كما
هي وإنما كما تبدو قوانين العقل، فالشعور يتأثر بالعقل لأنه لا يدرك حقائق النفس إلا بعد
أن يصورها العقل بقوانينه.
على أنه يوجد نوعان من الشعور: تجريبي وهو يصاحب الظاهرات النفسية حتى قبل
أن يؤثر فيها العقل، ونظري ويصاحب العقل في أثناء توحيده بين ظاهرات النفس والعلم
الخارجي.
وقد التفت كانط كذلك إلى اللاشعور واعتقد أنه يشغل أغلب الحياة النفسية،
فالتلسكوب مثلا يكشف لنا عن آلاف من الأجسام لا نحسها بالعين اﻟﻤﺠردة.
وقد وجه من أتباع المدرسة الايقوسية من تصور الشعور قصورا جديدًا فنحن إلى
الآن لم نصادف من الفلاسفة من اعتبر الشعور ملكة متميزة تشاهد حياتنا الداخلية من
غير أن تشترك فيها أما ريد الايقوسي فيقول أننا نعرف أفكارنا وجميع عمليات عقلنا
بمملكة نسميها الشعور. والشعور يعرف الظاهرات لا النفس في ماهيتها، وقد رد على
قول هيوم أنه لا يوجد أغمض من أفكار القوة والعلة الخ. قائ ً لا إلى تفهم ضرورة كنتيجة
لشعورنا بأنفسنا فأننا نشعر لعمليات النفسية التي توحي بأفكار القوة وغيرها.
ولكن يوجد الفلاسفة الايقوسين من يخالف ريد في تكيفه هذا للشعور وهو هملتن
فعنده أن الشعور ليس ملكة متميزة، وهو لا يتمي عن الحالات التي يشعر ﺑﻬا، وقد عرفه
بأنه حالة شاملة تنطبق على جميع العمليات النفسي التي تزيد على درجة من القوة ومن
ملاحظات هملتن أن الشعور لا يمكن أن يقتصر ميدانه على الحالات النفسية الخاصة،
ذلك لأن الشعور يمتد امتداد ملكات النفس. فعندما تجس العالم الخارجي بملكات، أو
تعرف حقيقة من حقائقه نشعر ﺑﻬا أيضًا فشعورنا يشع على العالم الخارجي كذلك.
وقد سلم هملتن بوجود اللاشعور واستدل عليه بأدلة منها أن أغني ما في عقلنا
كالعلوم واللغات يبقي عادة بعيدًا عن محيط الشعور. وأنه في بعض الحالات المرضية يهذي
المريض بما يظن أنه لا علم له به. وكذلك ففي ترابط المعاني توجد وسائط موصلة غير
مشعو ر ﺑﻬا يستدعي وضوحها تمنعًا طوي ً لا.
فلما كان عند المدرسة التجريبية الحديثة التي يمثلها ستيورات ميل وبين وسبنسر والتي
هي في الواقع امتداد للمدرسة التجريبية القديمة التي أنشأها لوك وهيوم. أقول لما كان عهد
هذه المدرسة. نظر إلى الشعور نظرة جديدة فيه أثر كبير من نظرية داروين العلمية في
التطور فانتبهوا إلى أن الشعور الحديث لا يمكن أن يكون صورة طبق الأصل من القديم.
وتنبهوا كذلك إلى أوهام الشعور فهو مثلا يعرفنا بظاهرات نفسية. ويجعلنا نعتقد أﻧﻬا
بسيطة وفي الحق هي معقدة ويمكن أن نحللها إلى عناصر كثيرة مختلفة تكونت ببطيء على
مر السنين. وخضعت لقوانين التطور.
والشعور عند هذه المدرسة لا يدرك إلا الظاهرات وهذا محقق لغرض السيكلوجية
العملية التي لا ترغب في أكثر من أن تربط الظاهرات بقوانين وتعرف أحوال تداعيها.
وقد أنكر ميل وجود لا شعور سيكلوجى. وقال عن المؤثرات التي لا تحس ﺑﻬا أﻧﻬا
فسيولوجية بمعني أﻧﻬا مؤثرات لم تصل قوﺗﻬا إلى المراكز العصبية فلا يلتقطها الإحساس
فالغائب عن الوعي هنا ليس أمرا نفسيًا ولكنه عصبي.
وعند سبنسر وبين الشعور يقتضي الحركة ويستلزم التغير. فوجود حالة نفسية لا
يحدث الشعور ﺑﻬا. ولكن يوجد الشعور إذا وجد تنقل من حالة إلى أخرى.
والذي يهم قوله هنا. أن الأفكار توجهت بشدة نحو ظاهرة اللاشعور ووصفت
ظاهرا ته العجيبة وصفًا مسهبًا حتى تغالي البعض مثل مودسلى وقالوا أن الشعور
نفسه أمر ثانوي.
فإذا عرجنا إلى العصر الحديث وجدنا ثلاث نظريات عن الشعور لثلاثة من كبار
مفكريه وهم وليم جيمس وبرجسون وهملن.
وطريقة جيمس التفكير ية أن يسير من المركب إلى البسيط، فهو يحاول أن يعرف
الحالات النفسية على أساس معرفته بالنفس لا أن يعرف النفس من مقارنة الحالات
النفسية وفحصها فحصًا عقليا.
والشعور هو أول ظاهرات السيكلوجية تصل به كل حالة نفسية، ولكن الشعور لا
يوجد خارج الحالات المختلفة ولا توجد الحالات منفصلة عنه، الشعور عهود الحالات
النفسية الفقري، وهو الذي يوجد بينها ويكون منها كلا لا يتجزأ، وهو مع ذلك فردي
أي مستقل في فرد عنه في بقية الأفراد.
والحالات النفسية تتجدد وتتغير دائمًا بحيث إذا عاودتنا حالة مرتين فلابد من تغير في
المرة الثانية يجعل ذاﺗﻬا مختلفة عما كانت عليه في أول مرة، والشعور مستمر كالتيار
الجاري، وليس مجري الشعور متشابه السطح. ففيه حالة يتوقف الفكر فيها عن الحركة
وأخرى يسبح فيها الفكر.
وليس ثمة شك في أن الحالة الأولى من السهل ملاحظتها ووصفها ولهذا وجه إليها
جل عنايته، ولكن ينبغي ألا ﺗﻬمل الحالة الثانية. حالة الحركة.
والشعور يدرك الحالتين معًا أي أنه يدرك ظاهرات النفس وعلاقاﺗﻬا التي تربطها
بعضها إلى بعض ومعني هذا أن الشعور تركيبي لا ينسي اﻟﻤﺠموع أثناء تحليله للأجزاء.
وأنه يحتفظ باستمراره واتصاله رغم تقطعه الظاهر.
والشعور لا يقف موقف الحياد من الحالات النفسية ولكنه يميل إلى البعض ويهمل
البعض الآخر، والحالات التي يتجه إليها الشعور يقال أﻧﻬا في البؤرة بينما التي ينصرف عنها
تكون في الحاشية وجميع الحالات تدور بين البؤرة والحاشية تبعًا للظروف النفسية وهذا ما
يحدث التيار. ويفسر غلبة بعض الحالات على غيرها بالاهتمام العملي في حياة الفرد.
وقد أتبع برجسون نفس المنهج، ولاحظ أول ما لاحظ أن الشعور ليس مقصورا
على الحاضر لأنه حفظ للماضي في الحاضر وتقدير للمستقبل، والذي ندركه حقًا هو قدر
من الزمن النفسي يضم ماضينا المباشر ومستقبلنا القريب، وبمعني آخر الشعور قنطرة بين
الماضي والمستقبل.
ولكن ما فائدة هذه القنطرة ؟
تجيب فلسفة برجسون على هذا السؤال بالآتي:
يظهر الشعور بظهور الحياة ويلازمها ملازمة الظل، لأنه أساس العمل وبيده تدبير
الأمور والبت فيها ويقدر على ذلك قدرة تامة لحفظه للماضي وتقديره للمستقبل ولهذا
كله فهو يقوي وينتبه حين يقبل الحي على حالة تتطلب التدبير والاختيار بين حلول كثيرة
ويضعف حيث يستغني عن الاختيار ويقترب الفعل من العادة أو الآلية، ولما كان الاختيار
مرادفًا للحرية فعمل الشعور يقوم على الحرية وبذلك يحكم الشعور الحرية في المادة. وعليه
فصفات وظيفة الشعور هي ذاكرة وتقدير للمستقبل واختيار وحرية.
ولكن ما هي طبيعة الشعور ؟ على هذا السؤال يجيب برجسون إجابة صوفية سامية
وأن لم ترض نزعات العالم التجريبية، فهو يقول مث ً لا أن الشعور لا يمكن أن يتحلل إلى
حالات متميزة، منفصلة، مستقلة، الشعور وحدة متصلة كالنغمة الموسيقية " تصور نغمة
موسيقية. تشعر بنفسها. وتخلق نفسها " هذا هو الشعور كما يجب أن نفهم.
ونحن نعبر عن طبيعة الشعور باللغة وبالتحليل العقلي وكل هذا يفسد طبيعته ويعرفنا
بشيء سواها، الشعور وحده من حيث الصورة أما من حيث الجوهر فهو صفة خالصة أي
أنه ليس كما. وفي هذا رد على الذين يزعمون أﻧﻬم يقيسون الظاهرات الشعورية كأﻧﻬا
ظاهرات مادية وهو يرجع هذا التصور إلى ما تظنه الأذهان العامية من أن العاطفة الأقوى
أكبر كمية من غيرها.
وهذا نقد لطريقة التأمل الباطني ومحاولة لإقامة السيكلوجية على أسس جديدة بعد
تطهير العقل من الأوهام العامية وإعارات السيكلوجية الطبيعية.
أما هملن فلا يميز الشعور عن الفكر ولما كان الفكر عنده يشمل حقيقة الوجود ( فلا
شئ يخرج عن ميدان الشعور سواء كان من ذات الإنسان أم من الوجود الخارجي ولم
يكن يرى في النفس جزأين واحد يشعر والآخر يكون موضوعًا له فهما عنده شئ واحد
يشعر بذاته ولكن إذا قلنا أن جميع الظاهرات هي ظاهرات شعورية فما السبيل إلى تمييز
الظاهرات النفسية عن غيرها من الظاهرات ؟ أننا إذا قلنا أﻧﻬا غير ممتدة أو لا تقع تحت
حس فأننا نعرفها تعريفا سلبيًا، والحق أن أهم يميزها أﻧﻬا ذاتية أي أننا نحس إحساسًا قويًا
أننا العامل الفعال في وجودها وتكييفها.
وهو كبرجسون يري للشعور وظيفة هي الاختيار وإذا فهو مثله أيضًا يري أن الحرية
شرطًا أساسي في وجوده.
وقد صار الآن اللاشعور نظريات أيضًا كما للشعور وتوجد طريقتان لتصوره:
واحدة تعتبره حالة من الشعور والأخرى تراه شعورا ثانيًا مستق ً لا أو نفسًا أخرى
قائمة بذاﺗﻬا. وهو في الحالة الأولى ظاهرة من الظاهرات النفسية وأما في الحالة الثانية فهو
كائن. هو حي آخر في الإنسان. وتستطيع أن نضرب مثا ً لا على الحالة الأولى بالكتابة
الآلية التي يكتب فيها الإنسان على كتابة ما يملي عليه مث ً لا وهو غير دار بما يفعل والحالة
الأخرى مثلها " الوسيط " الذي يأتي بالعجب أثناء التنويم المغناطيسي أو ما يسمونه
بتحضير الأرواح. والنظريات التي تقول بأن اللاشعور شخصية خفية هي التي تقرر حقيقة
تكاثر الشخصيات، ومن أصحاب هذا الرأي فرويد فيرى في الغريزة الجنسية شخصية
تعيش في باطن الإنسان وهي دائمة الصراع مع أخرى هي الشخصية الاجتماعية فإذا
غلبت على أمرها في الحياة الواقعة انطلقت حرة في الأحلام.
والنظريات القائلة بأن اللاشعور ظاهرة تختلف فمنها ما يعتقد بأن جميع الظاهرات
النفسية عرضة لأن تنغمر تحت سطح اللاشعور يستوي في ذلك منها السامي الذي يتصل
بالفكر والمنحط الذي يسفل الحس والشهوات فتوجد أحيانًا آلية في التفكير كما توجد
آلية في الأفعال، ويوجد لا شعور في الملكات العليا كالاختراع والإلهام والعبقرية، بل أن
التركيب وهو العمل العقلي الجوهري لا شعوري.
ومنها ما تقتصر ميدان اللاشعور علىالإحساس وتنفيه عن الفكر فالأستاذ ريبو
يقول أنه إذا كان يوجد اللاشعور ففي حالة التروع السابقة للشعور.
ونختم الموضوع بأن نلخص نظريات الشعور فيما يأتي:
-1 نظرية بعض الايقوسين التي تري في الشعور ملكة متميزة عن بقية الظاهرات
النفسية وليس لها قيمة الآن.
-2 المذهب التجريبي وكان يحاول أن يجعل من السيكلوجية علمًا لدراسة الظاهرات
النفسية فقط وعنده أن الشعور صفة تلحق بالظاهرات الفسيولوجية إذا بلغت حدًا من
القوة.
-3 نظرية مذهب كانط النقدي ويري أن الشعور لا يكشف لنا عن ماهية نفسنا
ولكنه يعرضها كما تبدو لنا.
-4 والنظرية الروحية وهي تؤمن بأن الشعور ينفذ إلى الماهية والحق المطلق وجعلت من
السيكلوجية ميتافيزيقيا.

اللغة-نجيب محفوظ

كتبها:نجيب محفوظ
نشرتها:المجلة الجديدة
تاريخ النشر:أغسطس 1935

اللغة

ليست الأفلاك في دوراﻧﻬا ولا النفس في خطراﺗﻬا ولا الحياة في مظاهرها العديدة
بأعجب من تلك العلامات الشائعة. التي قضى شيوعها بأن يزول روع إعجازها وهي
الكلمات أو اللغة، الكلمة هي السحر الحق الذي لا يرقى إليه الكفر أو الجحود، هي
مكمن النفس ترقد فيها عواطفها وأفكارها رقود الحياة في القلب.
فما هي اللغة ؟ وما أصل الكلمات ؟ وما علاقة ذلك بالنفس ؟
اللغة هي علامات التعبير عن الفكر بمعناه العام أي من حيث أنه عواطف وارادات
وأفكار. منها ما يدرك باللمس ( علامات العميان ) ومنها ما يدرك بالإبصار ومنها ما
يدرك بالأذن. والعلامات السمعية منها المد غم كالصياح ومنها الجلي وهو الكلام.
ويوجد فرق بين دراسة علم الفقه للغة ودراسة الفلسفة لها، فالفقه يبحث تطور
اللغة وتغيرها ونشؤ تراكيبها أما السيكولوجية فتدرس اللغة من حيث أصلها وعلاقتها
بالفكر.
وقد عالج أفلاطون مسألة اللغة في محاورة كراتيل واستعرض الرأيين اللذين كانا
يتنازعان في هذه المسألة وأولها رأى ديموقريط وهو يعتبر اللغة اصطلاحًا ويعتبر إيجادها
تعسفيًا فليس من حرج أن تبدل الأسماء كيفما تشاء وأن تصوغها إلى ما تشاء من
المسميات وثانيهما رأى كراتيل تلميذ هيراقيلط ويرى أن بين الاسم والشيء المسمى
علاقة طبيعية، فالاسم يعبر عن طبيعية الشيء بحيث أن من يعرف الاسم يعرف الشيء
ذاته. ولذلك أعتقد أن الله هو الذي أوحى للأنسان الأول بأول الكلمات.
وقد أنتقد أفلاطون الرأي الأول قائ ً لا أن أفعال الإنسان مقيدة بطبيعة الأشياء، فأنت
لا تستطيع أن تحرق مادة إلا بالآلة التي تطلبها طبيعتها لكي تحترق، كذلك المشرع يتقيد
بطبيعة الأشياء عندما يحاول أن يخترع لها الأسماء.
ولكن مع ذلك لم يكن أفلاطون من أنصار فكرة كراتيل فلم يؤمن بأن من يعرف
الأسماء يعرف حقائق الأشياء ولم يستسغ رجع الكلمات إلى اصل آلهي، إذا كيف ترجع
الكلمات لأصل إلهي وهي لا تخلو من نقص وعيوب، ثم أﻧﻬا لا تعبر عن طبائع الأشياء
وأن حاكت تلك الطبائع، وكذلك يوجد من " الطبائع " ما لا يمكن نقله باسم فلابد هنا
من الاصطلاح والتعسف. وعنده أنه لكي تسمى الأشياء يجب أن تعرفها أولا فالفكر
يسبق اللغة.
ويلاحظ أن بحث اللغة حتى الآن اقتصر على مسألة تعبيرها عن ماهيات الأشياء أما
الأبيقوريون فقد وجهوها إلى وجهة أخرى، وجهة التاريخ والنفس، فاللغة قبل كل شيء
دلالة عن النفس وهي تتأثر في وجودها وتطورها بالحاجات الإنسانية.
والكلام لغة طبيعية لأن لكل أنسان أعضاءه الطبيعية وهو يندفع إلى استعمالها طبعًا
وسجية، ولكن لما كان لكل جماعة عواطف وأفكار وأمزجة خاصة ﺑﻬا، ولما كانت اللغة
هي التعبير عن كل ذلك، فقد اختلفت تبعًا للأقوام ومن هنا جاء اختلاف اللغات، وليس
معنى هذا إلا معنى للإصلاح في تكوين اللغة فهو كثير النفع في تحديد المعاني، كما أنه
عماد المفكر في إيجاد كلمات خاصة بالمعانى الكلية والأفكار العامة وهي التصورات التي
تأتى عن تفكير وروية وليست وحى النفس والسجية.
وجملة القول أن المدرسة القديمة تجمع – ما عدا كراتيل – على أن اللغة خلقة
الإنسان، أما الكلمات فمنهم من قال أﻧﻬا تعبر عن حقائق الأشياء ومنهم من قال أﻧﻬا
تعسفية، حتى كان أابيقور فقال أﻧﻬا تعبر عن حالات نفسيه هي التي أبدعت اللغة.
فإذا انتقلنا إلى المدرسة التجريبية وزعيمها لوك نجد أن دراسة اللغة تتبوأ مكانة
رفيعة، لأن التجريبيين يرون أن العلاقة وثيقة بين العقل واللغة بحيث أنه يعتبر عبثًا دراسة
العقل قبل فهم اللغة.
وملكة الكلام طبيعية منشؤها في الجهاز العضوي ولكن هذا لا يكفي لإيجاد لغة وألا
لكان للببغاء لغة، فلابد من مقدرة عقلية تربط بين التصورات النفسية والأصوات
الكلامية. وهذا وأن كفي لإيجاد لغة إلا أﻧﻬا تكون لغة ناقصة ومما يكملها إيجاد الألفاظ
الكلية للدلالة بلفظ واحد على أشياء كثيرة وهذا ينفي الارتباك الذي يتطلبه أن يكون
لكل شيء اسم.
ويفهم من هذا أنه وأن كانت ملكة الكلام طبيعية فالألفاظ تتكون بالاصطلاح
والتعسف، وليس أدل على ذلك من أنه لو كانت الكلمات تحمل حقائق الأشياء لما كان
هنا لك من معنى لتعدد اللغات.
والباعث على الكلام هو ضرورة الاتصال بالناس، والملاحظ أن اللغة تسير من
المحسوس إلى غير المحسوس ومن الخاص إلى العام، فألفاظ مجردة كثيرة كالنفس، أﻧﻬا مشتقه
من أشياء حسية كالنفس و مما لا ريب فيه أن الأسماء العامة مثل الإنسان جاءت متأخرة
عن الأسماء الخاصة مثل محمد وعلى.
فلما جاء ليبنتز رد على رأى التجريبيين وناقضه في بعض المواضع.
وقد عرف قبل كل شيء كمؤسس علم فقه اللغة لأنه اهتم بتطبيق المنهج العلمي
المقارن في دراسة اللغات وبشر بالنتائج الخطيرة التي يمكن أن تعقب ذلك فاللغات أقدم في
دلالتها على نفس الإنسان وعقله من الفنون والآداب، والمقارنة بينها ﺗﻬدينا إلى حقائق
عميقة عن الإنسان وعقليته وتأثره المشترك.
وأما عن رده على المدرسة التجريبية فقد خالف لوك في فلسفته التي تشتمل على
هاتين النقطتين
-1 أن الكلمات في الأصل جزئية تدل على أفراد محسوسة
-2 أﻧﻬا وجدت بالاصطلاح والتعسف
فعنده أن الكلمات في الأصل لا تدل على أفراد، لأن الكلمات العامة ضرورية في
تكوين اللغة وأنه لمن المستحيل أن يتكلم الإنسان إذا لم يكن عنده إلا كلمات مفردة،
والتجربة تؤيد ذلك، فالطفل الآخذ في تعلم لغته يكثر من استعمال الكلمات العامة مثل
حيوان ونبات وشيء بدلا من الأسماء الخاصة التي تدل على أفراد هذه الأنواع.
وعن النقطة الثانية فهو لم يقبل الفرض الاصطلاحي إلا مع التحفظ فاللغة أن لم تكن
إلهية ولا فطرية فهي ليست محض تعسفية وقد يكون لها أسباب وجودها الطبيعية أو
الخلقية.
ومنها ما يدل على A وقد لاحظ أن من الأحرف ما يدل على القوة مثل حرف
وهذا يدل على وجود علاقة عامة بين الأشياء والأصوات وحركات D الرقة مثل حرف
ألأعضاء الصوتية.
وفي القرن الثامن عشر تزايد اهتمام الفلاسفة بتقرير العلاقة بين الفكر واللغة،
فذهب كوندياك إلى حد القول بأن الفكر يتبع اللغة، وأنه توجد لغة فطرية وأن لم توجد
أفكار تقابلها، وأن العلم نفسه ليس سوى لغة منظمة.
ما أصل اللغة ؟ أول صورة اللغة هي لغة الحركة فمظهرنا الخارجي يعبر عن
أحاسيسنا الداخلية وليست هذه اللغة إرادية ولا تعسفية وإنما هيطبيعية، فالحركات توجد
مع العواطف غير مسبوقة بقصد من الفرد إلي التعبير عن حالاته العاطفية، فحركات
الجسم لغة طبيعية توجد في الإنسان قبل أن توجد الرغبة في استعمالها وعمله أن يكتشفها.
ولكن الحركة لا توجد بالمعنى الصحيح ألا عند ما تعتبر الحركات علامات للحالات
النفسية وهذا لا يتم ألا حيث يشعر الإنسان بالحاجة إلى التفاهم لتبادل الفائدة والمنفعة.
وتبع ذلك ظهور لغة الكلام. وكان في بادىء المر صياحًا يتبع الحركات ويحاكيها
قوة وضعفًا ثم أخذ ينفصل عنها شيئا فشيئا حتى استكمل استقلاله، وزاد ثروته أن هيأت
له الطبيعة من ضجيجها والحيوان من صرخاته نماذج سخية للتقليد والمحاكاة.
فاللغة طبيعية من حيث أن الأعضاء الحركية والصياح طبيعية وقد اكتشفها الإنسان
لما أحس بالحاجة إلى التفاهم، وكان عمل الاصطلاح أن وسع ميداﻧﻬا ليس إلا.
وأخذ دى بروس بنظرية فلاسفة القرن الثامن عشر القائلة بأن اللغة تسير من البساطة
والفقر إلى النمو والثروة. ولكنه تصور أن اللغة أمر ضروري يحدد صورته الشيء المسمى
والصوت فهي لا يمكن أن تكون غير ما هي عليه.
فأي شيء من الأشياء يؤثر في النفس تأثيرًا خاصًا به فهنالك علاقة طبيعية بين الشيء
وأثره في النفس، كما أن هنالك رابطة طبيعية بين ذلك الأثر النفسي وبين الصوت الذي
يطلقه الإنسان للتعبير، فاللغة تنشؤ نشوءًا ميكانيكيا يحدده الشيء من ناحية والصوت من
ناحية أخرى، ولكن معنى هذا أنه توجد لغة بدائية واحدة، وقد آمن ﺑﻬذا الرأي ولو أنه لم
يقم دليل علمي عليه حتى الآن وكذلك نجد عند روسو روح القرن الثامن عشر التي تعتبر
اللغة طبيعية ولكنه اختلف مع كوندياك في فهمه الطبيعة واصل اللغة البدائية، فكوندياك
يقول أن الباعث على اللغة نجده في الحاجة. وروسو يقول بل في العواطف لأن الحاجة
تباعد بين الناس وتجعل بعضهم لبعض عدوا، أما العواطف كالحب والبغضاء والفرح فهي
التي انتزعت من أفواههم أول الأصوات، كذلك لا يرى رأيه في أن اللغة البدائية لغة دقيقة
وهي عنده لغة شعرية أقرب إلى الموسيقى منها إلى اللغة الدقيقة التي تستأهل هذه الصفة.
وخالف دى بروس في تحديده اللغة بين الشيء والصوت لأنه لو صح ذلك لكان
للحيوان لغة، فهو الأشياء تتصل بآفاقه، وهو وهبه الله آلة صوتية، والحق أن اللغة مرجعها
إلى ملكة خاصة هي التي تستعمل الصوت للتعبير عن الأشياء.
وقد لاحظ تأثير الجو في تلوين اللغات فمنها الدمث الرقيق ومنها القوى الشديد
القاسي وهكذا.
وقد وجد من الفلاسفة في ذلك الوقت من رجع إلى الرأي القديم، رأى كراتيل،
وهودى بونالد، فقال بأن اللغة أصلها إلهي، إذ كيف يتفق لأنسان أن يبدعها ؟ وإذا أمكن
وخلقها فكيف يمكنه أن يعلمها لغيره وهو لا يستطيع ذلك إلا إذا كان لهم لغة يتفاهمون
ﺑﻬا ؟
ولكن مان دى بيرن غير وجه المسألة فلم يعد يسأل عن أصل العلامات، فليكن
أصلها إلهيًا أو طبيعيًا أو أنسانيا، فالعلامات لا تصير لغة بالمعنى الصحيح إلا إذا استعملها
الإنسان للدلالة على حالاته النفسية وألا إذا عبر ﺑﻬا عن معانيها، فكيف يحدث ذلك ؟
تصير العلامة لغة إذا صار عملها اراديا، فالطبيعية تمون الطفل بالعلامات المعبرة عن
حاجاته ولكنها لا تسمى لغة للطفل إلا إذا استعملها بقصد التعبير وسيرها بإرادته،
فالطفل إذا تألم يصرخ ولكن الصراخ لا يصير لغة الطفل إلا إذا استعمله مثلا – في حالة
عدم وجود ألم – لكي تسرع المرضعة إليه وترفعه بين يديها أو تطعمه إلى غير ذلك.
فعمل الطفل هذا دليل على أنسًا ينته وبه تتكون اللغة الحقيقية.
وجد في ميدان الفلسفة اللغوية ما تقدم ﺑﻬا خطوات واسعة ويرجع ذلك إلى تقدم
علم الفقه المقارن و إلى ظهور نظرية التعبير الفسيولوجية وقد كان من أول نتائج ذلك
1) أن قضى على الرأي القائل بأن اللغة نتيجة التفكير، ( 2) وأن وفق بين نظريتي اللغة )
الصناعية واللغة الطبيعية.
وقد بدت ﻧﻬضة علم الفقه من أواخر القرن الثامن عشر ففي عام 1787 دلل
العلامة الإنجليزي وليم جون على وجود قرابة قويه بين اللغة السنسكريتيه والإغريقية
واللاتينية وفي عام 1808 اعتبر شليجل اللغات الهندية والفارسية والإغريقية والإيطالية
والألمانية فصيلة واحدة سماها فصيلة اللغات الهندية الجرمانية، وتقدمت الدراسات المقارنة
حتى أنشأ حويوم دى همبولت ويعقوب جرم ويورونوف علم اللغة التجريبي.
وكان من موضوعات درسه – وهو ما أثر أكبر الأثر في فلسفة اللغة – تلك
القوانيين العامة التي تسيطر على اشتقاق اللغات بعضها من بعض فقد بين أن تغير اللغة
يخضع لقوانيين ضرورية لا حيلة للأنسان في تصريفها فقضى ذلك على رأى الاصطلاحيين
وجعل من اللغة أمرا طبيعيًا وكائنًا حيًا يخضع لقوانيين الحياة. ومن الذين اعتمدوا على
علم الفقه في تعليل نشأة اللغة ماكس موللر ورينان.
ونرجع إلى موللر أن يجعل من اللغة علمًا طبيعيًا يخضع للقوانيين الطبيعية كالدورة
الدموية مثلا! . ونرجع إلى مسألة نشأة اللغة فنسأل ما الذي يرتئيه علم الفقه كحل
لذلك ؟
يرى موللر أنه يوجد في كل لغة عناصر بسيطة لا يمكن أن ترجع إلى أبسط منها
وهذه العناصر يسميها الأصول، وهذه الأصول تفسر عادة بأﻧﻬا تقليد لأصوات الطبيعة أو
بأﻧﻬا تعبير للحالات النفسية ولكن موللر يهمل هذين التفسيرين. وهو يفسرها بملكة في
الإنسان هي التعميم، لأن هذه الأصول تدل على معانى عامة، فاللغة في ﻧﻬايتها ترجع ليس
إلى المحاكاة ولكن إلى تصور الإنسان العام للمعانى. فالإنسان قبل أن يطلق كلمة كهف،
كان قد تصور معنى التجويف العام ثم أطلقه على الكهف. وبذلك يمكن التوفيق بين لوك
وليبتز وكان الأول – كما رأينا – يقول أن أصل الكلمات فردية والثانى يقول بل عامة
فكلمة كهف فردية من حيث أﻧﻬا تطلق أول ما تطلق على هذا الكهف أو ذاك وهي عامة
من حيث أننا لانطلقها على هذا الكهف أو ذاك إلا بعد أن يحصل لنا معناها العام وهو
التجويف.
فما العلاقة بين التصور والكلمه ؟ يجيب موللر على ذلك بقوله أن الفكرة توحي
بالكلمة فهذا قانون بدائي في النفس. فكما أن كل جسم إذا طرق يرن فكذتوضيح
مسألةرة يوحى بالكلمة ورينان يشابه موللر في عدم أخذه بالرأي التعسفي ولكنه رد اللغة
إلى المحاكاة نابذا فكرة موللر عن التعميم وكان يرى أن في الإنسان ملكة كلامية يستعملها
من تلقاء نفسه، وأنت حر في رجع هذه التلقائية إلى الإنسان أو إلى خالفه، فاللغة فن
أنسانى ولكن لا يرجع إلى شخص بعينه بل إلى الفكر عامة، هو التعبير الظاهر عن الفكر
ونموه.
وقد أفادت الفسيولوجية كذلك في توضيح مسألة اللغة ذلك أﻧﻬا وضحت أن
العلامات التعبيرية لم تكن غايتها التعبير من بادىء الأمر. مشار بل يقول أن العلامات
التعبيرية كالحركات وتغيرات الوجه هي بدايات أفعال وظيفتها أن تخدم العواطف التي تعبر
عنها تلك العلامات، فهي أفعال من شأﻧﻬا أن تديم هذه العواطف إذا كانت لذيذة أو
تزيلها إذا كانت مؤلمة ثم صارت معبرة عن تلك العواطف.
وداروين شارك شارل بل أرائه ولكنه اعتمد عليها ليفسر ظاهرات التعبير تفسيرا
جديدًا مبنيًا على ثلاثة مبادئ:-
-1 مبدأ التضاد
-2 “ مبدأ تداعى العادات النافعة
-3 “ تأثير الجهاز العصبي على الجهاز العضوي
أما مبدأ التضاد فيفسر بعض الحركات التعبيرية بأﻧﻬا وجدت على ما هي عليه لأن
صورﺗﻬا النهائية تضاد صور الحركات التي تصاحب عاطفة مضادة للعاطفة التي تعبر عنها.
فمث ً لا القط إذا أحس سرورا ينكمش ويقوس ظهره، فذلك لأن هيئته هذه تضاد الهيئة التي
يتخذها في أحوال الغضب والشر.
ومبدأ تداعى العادات المفيدة يقول أنه توجد حركات تتخذها الأعضاء لإشباع
شهوة أو إدامة عاطفة وأنه بمرور الزمن يصير اتيان هذه الحركات عادة من العادات بحيث
أﻧﻬا تحدث في الجسم ﻟﻤﺠرد وجود شيء من العاطفة أو الشهوة لا يحتاج في ذاته إلى الحركة
الحادثة، ففي أمثال هذه الحالات تنعدم أو تقل جدًا قيمتها النفعية ولكن تبقى لها قيمه
تعبيريه. وكثير من العلامات التعبيرية كانت أفعا ً لا والعادة والوراثة يجعلاننا نأتيها عفوا
حيث كان آباؤنا يأتوﻧﻬا لما فيها من أوجه النفع. مثال ذلك أن الكلاب الفت بأن تلعق
أبناءها لتنظيفها، ولكن هذه العملية تصحب عادة بعواطف المحبة فآلت إلى علامة عن الود
عندها حتى أﻧﻬا تصنعها لأصحاﺑﻬا البشر.
وأما المبدأ الثالث فهو مستقل عن الإرادة وربما عن العادة وفحواه أن ﺗﻬيج الأعصاب
المخية يولد قوة عصبيه وهذه ينشأ عنها حركات وصيحات وبتداعي المعانى تؤول إلى
علامات عن عواطفز
مما تقدم نرى أن العلامات التعبيرية لم توجد في الأصل على أﻧﻬا علامات للتعبير وأﻧﻬا
تتحول إلى ذلك بالعادة والتداعي والفهم وإذا فلا داعي لوجود ملكة خاصة بالكلام كما
كان يقول بعض الفلاسفة ممن مر ذكرهم. فاللغة تخضع لقوانين طبيعية، وبعد وجود
العلامات التعبيرية وبعد استعمال ما هو طبيعي وما هو ارتدى تأتى الكلمات، وتتقدم
الكلمات بدورها خاضعة لقوانين الفكر نفسه.
وفي العصر الحديث هجرت مسألة اللغة الفلسفية ومالت نحو علم الاجتماع
السيكلوجية على وجه الخصوص.
فما جعل اللغة ظاهرة اجتماعية فآت من أن منابع اللغة عديدة لا يحيط ﺑﻬا الحصر،
وأن الذي يمكن حصره منه هو ما يسبب وجود اللغة الاصطلاحية، وهو لا يبلغ أنسان إلى
حصره وعرضه إلا إذا أنتشر استعماله وذاع في اﻟﻤﺠتمع.
ولكن هذا لم يمنع من تفسير اللغة تفسيرا سيكولوجيا حتى أنتهي الأمر ببحث ما
يعرف بروح اللغة أو بحث نفسيات الشعوب كما تنعكس في اللغات.
وقد هجر تصور التغيرات الصوتية كما لو كانت خاضعة إلى قوانين ضرورية عمياء
ووجد أن العوامل النفسية – كالمحاكاة والرغبة في الإفهام – توجد في أساس ميكانيكية
العادة التي تخلق العلامات التعبيرية.
وإذا كانت التغيرات الصوتية لا يشعر ﺑﻬا الإنسان فذلك راجع إلى أﻧﻬا ليست نتيجة
التفكير وأن الذي يؤثر فيها هو ذلك المنطق الغريزي منطق الشعوب فالجانب الاجتماعي
يغطى هنا على العوامل النفسية.
هذا عن المسألة الصوتية وأما عن معانى الكلمات فالعامل فيه نفسي أيضًا وهو الفكر
ذاته، فالكلمة ليس لها معنى واحد ولا يحدد لها معنى إلا بعد الاستعمال. أي أﻧﻬا تأخذ
معناها عن عقلية الذين يستعملوﻧﻬا. تلك العقلية التي تختلف بين قوم وقوم تبعًا للثقافة
والعصر ومناحي الفكر فالتطورات اللغوية ترسم التطورات العقلية ومن هنا كانت اللغة
من الدراسات النفسية.
وهكذا يتم رجوع اللغة إلى السيكلوجية – وفي بعض نواحيها – إلى الاجتماع.
ومن هذا نرى أن مسألة اللغة ابتدأت بمعالجة هذا السؤال. هل اللغة تعبر عن حقائق
الأشياء أم لا؟
ثم انتقلت إلى تحديد العلاقة بين الفكر واللغة ايهما يسبق وأيهما يخلق صاحبه
وترجح الحل بين رأيين. رأى يرجح اللغة إلى أصل إلهي وآخر إلى أصل أنسانى.
ثم بتقديم علم الفقه المقارن وعلم الفسيولوجية هجرت مسألة أصل اللغة. واعتبرت
كشيء حي يخضع لقوانين الحياة يبدأ بحركات عكسية تتحول إلى علامات للتعبير. ثم
توجد الكلمات وتمتد اللغة معبرة عن عبقرية جنسية خاصة ونوازع أنسانيه عامة.
وفي العصر الحاضر يستأثر ﺑﻬا الاجتماع السيكلوجية.

الشخصية-نجيب محفوظ

كتبها:نجيب محفوظ
نشرتها:المجلة الجديدة
تاريخ النشر:ديسمبر 1934

الشخصية

هي عند السيكولوجية القديمة صفة جوهرية تقوم عليها الحياة النفسية بأسرها وهو
تفسير بسيط. أما الآن فالعلماء يروﻧﻬا أعقد من ذلك بكثير ويهدى البحث في مسألتها إلى
أﻧﻬا نتيجة لتعقيد كبير يشمل نواحي الفرد المختلفة الجسيمة والنفسية والاجتماعية.
مم تتكون الشخصية:
ا-الشخصية ليست بسيطة: قبل أن نجيب على هذا السؤال يجب اعتبار بعض
الملاحظات. فالشخصية مث ً لا ليست بدائية أو بسيطة لأنه في حالة البساطة لا تتكون للفرد
" قدرة التركيب " أو قوة الإنشاء التي يربط ﺑﻬا بين الظاهرات ويرتب المقدمات ويتنبأ
بالنتائج لأن حالة البساطة هي حالة ما قبل الشعور وهي تتجلى بوضوح فيما بلابس
الطفل من شرود الذهن والعجز عن حصر الانتباه وعدم القدرة على تنظيم المحفوظات أو
توجيه الإرادة، وفي حالة البساطة أيضًا قد لا يميز الفرد بين شخصه وبين الأشياء فالبنت
الصغيرة قد تضرب عروستها لذنب اقترفته هي. والرجل الهمجي يحرق صورة عدوه
اعتقادًا منه أنه يحترق لاحتراقها، ثم أن الفرد في حالته الأولى لا يتميز عن الجماعة التي هو
فيها فهو يفكر بفكرها ويشعر بشعورها ويعمل مؤتمرا بأمرها لا فارق بين هذا وذاك
وجميع ذلك يمنع من ظهور الشخصية وتبلورها.
ب- تكوين"الأنا " وإحساس الفرد بنفسه الذي يعبر عنه بقوله " أنا " يحس به
تدريجيًا مع إحساسنا بالعالم الخارجي ويكون ذلك على درجتين
1)الأنا الجسماني: ويبدأ عندما يأخذ الفرد في التمييز بين الجسم والعالم المادي )
فيعرف أن له أنا ماديا يختلف عن الأشياء لما يرى جسمه ملتصقًا بشيء من الأشياء المادية
ويلاحظ الفروق التي بينهما ومما يعين على ذلك أن إحساسنا بالصفات الجسمية ثابت بما
يجعل للجسم في مجال الشعور مكانا خاصًا يدل عليه، وتلعب الاحساسات الباطنية
والاحساسات الحركية دورًا هامًا في التعريف بذلك الجانب المادي من الشخصية.
2)الأنا الروحاني: والخطوة التي تتلو ذلك هي أن يميز الإنسان شخصية داخلية )
ويميزها عن جسمه على اعتبار أن هذا الجسم شيء خارجي. ومما يمهد إلى ذلك أن
الشخصية. بجسمنا يضغط علينا كما في أحوال الألم المادي كأنه شيء خارجي تمامًا حتى
أننا نقول " يؤلمني جسمي " فنميز بين الجسم الذي يؤلم والأنا الذي يتألم، وكذلك فأن
الاحساسات الباطنية تدرك كان لها امتدادًا وهذا يجعلنا نضعها بين الأشياء التي توجد في
المكان والامتداد فتتميز بذلك عما ليس له امتداد وهو جوهر الفكر، وهذا أسلوب فلسفي
في الفحص عن حقيقة النفس لجأ إليه ديكارت عندما كان يحاول معرفة نفسه، فالجسم
والنفس هما مجمل الشخصية الإنسانية.
فكرة الأنا والعواطف الشخصية:
الشخصية تطلق على أفكار وعواطف كثيرة يجب أن نحللها ونعرفها
أ-صفات الأنا: صفتا الأنا اللازمتان هما الوحدة والذاتية ومعنى الوحدة أنه مهما
كانت العواطف والأفكار والرادات والاحساسات التي نحسها مختلفة فأننا نردها إلى وحدة
واحدة، وتفسير الذاتية أنه مهما كانت الحالات التي تطرأ على هذه الوحدة متباينة كثيرة
فهي تبقى محتفظة بذاﺗﻬا أي تبقى هي فالفرد السليم يعلم تمام العلم أنه هو في أطوار
الطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة وأنه في أحوال الفرح والحزن والنجاح والفشل
والصحة والمرض إلى غير ذلك مما لا يحصره عد. و ليلاحظ هنا – تأييدًا لما قلناه – أن
الوحدة والذاتية من الخواص التي يخطى البدائي في تميزها فهما تلازمان حالة هي أرقى
بكثير من حالة البساطة.
ب-العواطف الشخصية: والعواطف ليست بدايات بسبطية ولكنها ﻧﻬايات معقدة
فالأنانية والشعور بالجدارة وحب الاستقلال والميل للتحكم عواطف ظهرت بصورها
الحديثة بعد تقدم اجتماعي كبير، وهي ترجع إلى ميول بدائية تبدو في محاولة الامتياز
بشيء. فالطفل يعنى أول شيء بقوة جسمه ليتفوق في المغالبة أو اللعب ثم يوجه عنايته نحو
الزى والهندام ثم يفاخر بالأثاث حتى ينتهي إلى المباهاة بالمواهب العقلية وجميع هذه
العواطف لا تعيش إلا في اﻟﻤﺠتمعات الراقية بعد أن تكون عرضة لتطورات طويلة لأن في
اﻟﻤﺠتمعات الساذجة الفرد جزء غير متميز من الجماعة فلا يرغب في الاستقلال ولا يميل إلى
السلطان والتحكم وقد يقال أن عاطفة الملكية طبيعية جدًا ولكن الملكية ذاﺗﻬا لا توجد إلا
في اﻟﻤﺠتمعات بعد أن يطرأ عليها تطور كبير.
أمراض الشخصية
وذاتية الشخص أو الشعور بأﻧﻬا هي لم تتغير رغمًا عما يمر ﺑﻬا من تغير عرضة
لاضطرا بات نذكر فيما يلي بعض أحوالها.
1) حالة يحس فيها المريض بمرضه ويعيه بشعوره وقد قسمها الدكتور جانية إلى ثلاث أنواع: )
حالة يحس فيها المريض بغرابة شخصيته فيخيل إليه مث ً لا أنه مضحك منحط زري،
وأخرى يحس فيها بتضاعف شخصيته فيخيل إليه أنه شخصان متمايزان، وثالثة يحس فيها
المريض بأنه فقد شخصيته فيسأل من أنا أو يخيل إليه أنه مات.
ويدخل تحت هذه الحالة ما يعرف بجنون العظمة فهنا يعتقد المريض أنه ملك عظيم
أو قائد كبير وتصدر عنه أفعال وإشارات تعبر عما يقوم بنفسه من اعتقاد فإذا سئل عن
مهنته مث ً لا أجاب بالحق والواقع فيقول نجارا أو تاجرا الخ. فهذه الشخصية منفصلة إلى
أجزاء مستقلة يعمل كل في زائراته
2) حالة أخرى يوجد فيها جزء من الحياة النفسية مستق ً لا عن بقية النفس ولا يعيه الشعور )
الطبيعي.
ومن ذلك انقسام الشخصية كما حدث لفتاة فقدت شعورها ولما أفاقت نسيت
ماضيها ثم فقدت شعورها ثانيا ولما أفاقت عادت ذكرياﺗﻬا القديمة ولكنها نسيت ما بين
حالتي فقدان الشعور الأولى والثانية وعادت على ذلك فهنا انقسمت الشخصية إلى حالتين
لابستها كل منهما زمنا ولكنها دعت حالة ونسيت الأخرى كأﻧﻬا لم تكن. بل قد تنقسم
الشخصية إلى أربع أو خمس شخصيات يكون المريض في واحدة منها رحيمًا وفي الأخرى
قاسيا وفي ألثالثه كريمًا وفي الرابعة لئيمًا بل قد تتغير – بين واحدة وأخرى – مذاهبه
ومعتقداته بل خطة نفسه قد تتغير أيضًا.
ومن ذلك ما يعرف بالوساطة حيث تتلبس الوسيطة شخصية أخرى يحمل إجاباﺗﻬا
إلى السائلين وهو في الحقيقة يعبر عن آلامه وأمراضه متأثرا بعقائده وآراء عصره.
ومن ذلك أيضًا الانحلال الكلى للشخصية حيث يعتقد المريض ( المصاب بالشلل
الكلى مث ً لا ) أنه اثنان ويحس باثنينيته إحساسنا بوحدتنا وبما حكى عن أحد المصابين
بالانحلال الكلى أنه حرك يده ليسرى ثم أوقفها بيمناه وضرﺑﻬا كأنه يعامل شخصًا غريبا.
نظرية الشخصية
نعلم أن حالات " الأنا " كثيرة " والأنا " واحد فكيف نفسر ذلك ؟ أجابت
مدرسة بأن الأنا جوهر ثابت واحد مميز عن الجسم وعند بعضهم أنه مميز أيضًا عن
الحالات التي تعيره. فكيف إذا نعرف هذا الجوهر ؟ وهنا نجد إجابتين لنظريتين مختلفتين.
النظرية الروحية: فديكارت يقول أننا نعرفه بالبداهة لأنه بالبداهة أعرف أنى كائن
ماهيته الفكر ومن هناك قوله المعروف " أنا أفكر فأنا موجود" أما ريد وفكتور كوزان
وجانيه فيقولون أننا نعرف النفس بقياس عقلي وكما أن كل فعل يفرض فاع ً لا وكل صفة
تدل على موضوع كذلك حالات النفس تدل عليها ويلاحظ أﻧﻬم جميعًا اهتموا بمعرفة
وجه واحد للنفس وهو الجوهر الواحد الذاتي ولكن للنفس وجه آخر عنى به عناية خاصة
علماء محدثون كبرجسون ووليم جيمس وهو ذلك الوجه المتغير والمستمر الحركة والتقدم
وكذلك لم يبينوا علاقة الظاهرات النفسية بالجوهر الواحد وديكارت نفسه يقول أننا لا
نعرف الجوهر إلا عن طريق صفاته أي أن معرفته عن طريق مباشر غير ممكنة.
النظرية التجريبية: أما هذه النظرية أيضًا فجل اهتمامها موجه إلى الحالات المتغيرة
التي تعبر النفس واعتبر أصحاﺑﻬا الشخصية مجموعة فقال دافيد هيوم أن النفس هي الحالات
المتتابعة المرتبطة بقانون العلية وهو نفس ما ذهب إليه ستيورات ميل يقول كوندياك –
فيلسوف المذهب الحسي - أن النفس هي مجموعه الاحساسات التي يعيها الشعور مضافًا
إليها ما تمدنا به الذاكرة. وهو رأى تين أيضًا. ونستطيع أن نقول في هذه النظرية ما قلنا في
السابقة مع اعتبار الفارق وهو أﻧﻬا اهتمت بالوجه المتغير المتعدد من النفس وأهملت الوحدة
الثابتة.
العوامل المكونة للشخصية
العامل العضوي: الوحدة العضوية لجسم الإنسان أساس – وأن لم يكن كافيا وحده
– فهو ضروري جدًا للتعريف بالشخصية فالوحدة الطبيعية أس الوحدة النفسية، وفي
الحالات التي يكون إحساسنا بوحدة الجسم ناقصًا يكون إحساسنا بالوحدة عمومًا غامضًا
أضف إلى ذلك أن الحياة الوجدانية وهي تترجم في الغالب عن تأثرات عضوية من أهم ما
يكون شخصيتنا لأننا نحس بفرديتنا عن طريق عواطفنا أو أكثر ما نحس ﺑﻬا عن طريق
الفكر. بل يذهب البعض إلى حد القول بأن الاحساسات أو أحساسات الحركة هي كل
أساس للشخصية ويقول الأستاذ ريبو أن أي احتلال في هذا الأساس يصحب باضطراب
في الإحساس بالشخصية.
العامل الاجتماعي: وللمجتمع دور مهم في تكوين الشخصية وهل الشخصية إلا
ميول وعواطف وأفكار وأي شيء من هذا لا يتأثر في كثير أو قليل باﻟﻤﺠتمع ؟ هذا أقل ما
يقال لأننا لا نريد أن نقول مع الاجتماعيين بأﻧﻬا جميعًا اجتماعية في المنشأ والماهية. ومما
يساعد بشكل واضح على تميز الشخصيات تعقد اﻟﻤﺠتمع وتعدد أنواعه وانقسام العمل فأن
هذا كله يعمل على خلق نماذج مختلفة غاية الاختلاف في السلوك والرأي والعاطفة
وليست الشخصية إلا هذا.
العامل النفسي: على أنه لا يمكن إنكار ما للنفس من شأن كبير في صنع الشخصية
بل نحن نتوهم كثيرا أننا نخلق أنفسنا خلقًا وأن كل مالنا من صفات واستعدادات هو نتاج
لإرادتنا وهو وهم له ما يبرره لأن كل ما نأتي من أفعال نحس بداهة أن أرادتنا هي التي
توجهه وتثابر عليه وتتصرف فيه وأن عقلنا هو الذي يمهد له السبيل السوي يبتكر له
الوسائل النافعة وأن عواطفنا هي التي تمدنا بالقوة والصبر، فجميع ملكاتنا النفسية تلعب
دورًا هامًا في تكوين شخصيتنا.
فالشخصية كما ترى عالم صغير ينطوي فيه عالم كبير هو كل ما يحيط بنا من جسم
ونفس ومجتمع.