الأربعاء، 6 يناير 2010

فلسفة الحب-نجيب محفوظ

كتبها:نجيب محفوظ
نشرتها:المجلة الجديدة
تاريخ النشر:أكتوبر 1934

فلسفة الحب

الحب هو تلك النسمة الحية التي تشيع في جميع الكائنات الحية نبصرها في تآلف
الخلايا وتجاذب الأطيار وتزاوج الإنسان، وقد يكون من الحكمة - إذا رغبنا في أن نذكى
إحساسنا به أو نسمو بعواطفنا فيه – أن نقصد جماعة الشعراء نصغي لأناشيدهم وقد
وهبهم الله من طاقه الإحساس ﺑﻬذه العاطفة وغيرها ما يبلغهم مناهم من تصوير العواطف
العميقة حيث يقف العقل حائرا مترددا. فما علاقة الفلسفة بالحب الحق ؟ أن أي فلسفة
هي وجهة نظر يفسر ﺑﻬا الفيلسوف مختلف الحقائق ولما كان الحب أحدى هذه الحقائق
فللفلسفة رأيها عنه أو قل فللفلسفات المختلفة آراؤها المختلفة عنه، فواجب علينا نحو
أنفسنا أن نعرف هذه الآراء. نعم أن الحب عاطفة ولكن المعرفة التامة للعاطفة لا تتطلب
فقط إحساسنا ﺑﻬا وإنما يجب أن يضاف إلى ذلك امتحان وتكييف العقل لها حتى تملأ
حقيقتها القلب والعقل فيظفر العارف بمتعة الظافر بالنور بعد التخبط في الظلام ويحس
إحساس المطمئن بعد التردي في مهاوى القلق والشك.
وأول ما يخطر على بال الباحث هو هذا السؤال ما أصل الحب ؟ وتجيبنا الفلسفة
إجابات مختلفات بعضها يرجع للمذهب الواقعي وبعضها للمذهب التصوري وتغلب على
البعض الآخر الأبحاث العلمية المادية وفي كل من هذه الآراء نجد جانبًا من الحقيقة.
وقبل أن نتكلم عن هذه المذاهب المختلفة يحسن بنا أن نذكر مذهبًا ساذجًا نبت في
العقول البسيطة الأولى وترك آثاره في معتقدات بعض الجماهير وخلدت اللغة الشعرية –
باستعاراﺗﻬا وتشبيهاﺗﻬا – معالمه، يفسر هذا الرأي في الحب بالسحر ويقول أن المحبوب
يحب بقوة سحرية تكمن فيه هي التي تمكنه من القلوب والأهواء ومن هنا جاء الاعتقاد
بأن بعض الأعمال السحرية قد توقع في شراك الحب من كان عاصيًا أو أﻧﻬا ترجع إلى
وكر الحبيب من جذبه هوى جديد أو صرفه ملل وسأم، و لغة الغرام تدل على هذه
العقلية ومازال ألفاظ السحر ترادف ألفاظ الغرام.
لكن العقل لا يسلم للسحرة بآرائهم ولا يؤمن بالسحر لأن للعقل منطقًا ثابتًا وليس
للسحر منطق ما ولأن السحر يمثل حالات فردية خاصة وأحوالا شاذة لا تخضع لقانون أما
العقل فتراع إلى معرفه القانون لكل حادثة بحاث عن الحقيقة الواحدة المشتركة بين
ظاهرات مختلفة الظاهر. لذلك كله فهو ينبذ فكرة السحر ويرى في الحب رأيا آخر، يقول
أننا لا نحب لمرآه ولا البحيرة ولا الأﻧﻬار ولا الأوطان ولكننا نحب الكمال، إذ أن هناك
كمالات وسجايا تترع إليها قلوب البشر بالمحبة فإذا لقيتها في شيء جامد أو حي اختصته
ﺑﻬواها، أي أن المحبوب لا شأن له في الحب إلا بقدر ما يحمل من هذه السجايا، وهذا رأى
يذكرنا سريعًا بفلسفة أفلاطون وخاصة نظرية المثل التي تقابل المخلوقات والتي يختلف
حظها من الكمال فيختلف حظ الناس منه تبعًا لذلك وتتفاوت أقدارهم بقدر ما فيهم من
كمالات.
لما كانت هذه الصفات الكاملة كثيرة متباينة سعى العقل – كعادته – إلى الكشف
عن الوحدة المشتركة فيها بحث عن الأصل الأول لجميع هذه الكماليات ووجد ضالته في
" الله " فالله هو أصل الكمالات وهو – تبعًا لقرﺑﻬا منه أو بعدها عنه. نحب الملائكة فالناس
فالحيوان وهكذا. ومنه يتبادر إلى الحب.
وهنا يتبادر إلى الذهن اعتراض وجيه: إذا كنا نحب الكمال في المحبوب فكيف يتأتى
لنا أن نحب ما هو بعيد كل البعد عن الكمال ؟ ويرد أصحاب هذا الرأي أن الخطأ يأتي
من أن الحب لم يأخذ مجراه الطبيعي وأنه يأتي مما يضلل عين المحب عن الحب الصادق
وليس من الحب نفسه فإذا صدفت نفس عن الحب السامي فالذنب ذنب النفس، يعزون
الفساد إلى النفس البشرية ويذهبون مذاهب مختلفة في تعليل منشأ هذا الفساد فيعلله رسوبًا
ﻟﻤﺠتمع وتعلله الافلاطونية الحديثة باتصال النفس بالجسد وغير ذلك بما لا يدخل في نطاق
بحثنا، وأنك إذا رحضت نفسك مما يعلق ﺑﻬا من جراثيم الفساد خلصت للحب الكامل
وخلص الحب للكمال والخير.
تجمع هذه الآراء – كما ترى – على أن سر الحب في المحبوب سواء أكان ذلك
لسحر كامن فيه أو صفة كمال يتحلى ﺑﻬا أو كان لقربه من الله أصل الكمالات.
ثم كان لتقدم علم النفس واستقلاله عن الفلسفة أثر قوى في فهم الحب ودراسته لأن
علم النفس الحديث يدرس الظاهرات النفسية دراسة علمية والحب عنده ظاهرة ذاتية تتعلق
بنفس المحب لا بنفس المحبوب كما رأينا عند أصحاب المذاهب السابقة، ولذلك عنى
علماؤه بنقد فلسفة الحب السابقة. فمثلا الفلاسفة السابقون كانوا يعزون أخطاء الحب
إلى فساد النفس ويعتبرون الخطأ شذوذا وأن الحب الطبيعي يسير دائمًا في طريق الكمال
فيقول المعترضون أن الخطأ في الحب ليس عرضًا وشذوذًا ولكنه من صميم جوهره فلا
يسمى عاشق من يحب المرآة بقدر ما فيها من جمال ولا يسمى بخيل من يعشق المال بقدر
ما فيه من منفعة إنما العاشق هو الذي يحب المرآة فوق ما تستحق أضعافًا بل هو يحبها
أحيانًا عن غير استحقاق وإنما البخيل هو الذي يحب المال حبًا جمًا أضعاف أضعاف ما
تتطلب المنفعة، فالحب كما يقال أعمى وفيه لوثة جنون لأنه يتوهم الجمال حيث لا جمال
ويبالغ في تقديره إذا وجد فلا يقال بعد ذلك أن أصل الحب في المحبوب بل أننا نقدر
الشيء تبعًا لهوانا من غير تدخل جدارة الشيء أو عدم جدارته. ويقول هؤلاء العلماء أن
الحب وثبة نفسية ماهيتها أن تمتلك ما تظنه يشبع هواك فما اصل هذه الرغبة ؟ لو كنا
نستطيع أن نحلل النفس تحلي ً لا وافيًا لما خفي علينا من أمرها شيء ولفهمنا أصل الحب حق
الفهم ولكن أمر النفس مبهم وعلى هذا فمعرفة أصل الحب لا يمكن إلا أن تكون تقريبية
ماسة لبعض جوانبه، قد يكون الأمر في الحيوان سه ً لا لأن حياته النفسية بسيطة تسير على
وتيرة واحدة وتتحكم فيها الغرائز، أما نفس الإنسان فراقية معقدة أشد تعقيد، نعم قد
يمكن التكلم عن " حب الإنسان " بوجه عام كأنه موضع يخضع للأحكام العامة فتصدق
بعض الصدق ولكن الواقع أن الحب فردى ذاتي وأن كل فرد يختص بنوع من الحب
ولذلك فطريقه الروائي الذي يريد أن يحكى قصة غرام شخص ما أن يبدأ بسرد تفاصيل
حياته الاجتماعية والنفسية لأنه يعلم بداهة أن حبه يلحق بزاته ويتبع طبيعته الخفية.
مهد ما هدى إليه علم النفس الطريق لتفسير جديد للحب هو تفسير المذهب
التصوري فهو يرى أن الحب يوجد قبل وجود موضوعه وبعده وأن أدى ظاهر التفكير إلى
عكس ذلك لأنه لا يشاهد حب وهو ملتحم بموضوع، والدليل على ذلك أحلام اليقظة
فكثيرا ما نحلم بالحب من غير أن نحسن وبموضوع الحب نفسه، و يبدو الأمر أكثر
وضوحًا عندما تريد النفس عن التعلق ﺑﻬوى ما فنحسه جثه هامدة بعد أن كان شرارة
حياة وقادة، وعندما يخلف الكره الحب بعد أن يخيب أمل العاشق فيما يعشق وينكشف
فإذا به عار عن كل ما يحببه إلى النفس، فالحب هنا موجود ولكنه لا يجد ما يروى غلته، و
الحب إذن يخلق ما في موضوعه من جمال هذا على الرأي ومن النادر جدًا أن يوجد في
الحبيب بعض ما نضيفه إليه من السجايا أليس قد نكرهه فلا نرى فيه شيئا من الجمال ؟
فالحب يبدأ كذبه علينا إذا استقر على شيء ما ورأى المذهب التصوري عن الحب متأثر
جدًا برأيه من المعرفة فهو يقول أن كل محصول معرفتنا عبارة عن صور قائمة بنفسنا لا
نكاد نشك في حقيقة ما نتصور أنه يقابلها في العالم الخارجي، ولكن كيف يجوز لنا أن
نستوثق من ذلك ؟ من يدرينا أن الصورة التي في نفسي يقابلها موضوع في الخارج مقابلة
العلة للمعلول ؟ ويقرر المذهب أننا لا نعرف إلا هذه الصور وعلى نفس المنطق يقول أن
الحب عاطفة نفسية مستقلة عن كل موضوع خارجي، وهي ابعد ما تكون تأثرا بأي
شيء خارجي بل على العكس فهي تؤثر في الأشياء وتكيفها على حسب مشيئتها. وكان
من نتيجة الاعتقاد ﺑﻬذا الرأي أن جنح أصحابه إلى التشاؤم ودعوا إلى مقاطعة الحب، لان
فلسفتهم كشفت لهم عما يعبد الناس من آلهة وخير وجمال فإذا ﺑﻬا أصنام وخدع وأوهام
وإذا كان ذلك كذالك فمن العبث أن نحب أو نبجل خضوعًا منا لعاطفة الجبن التي ترضى
أن تنخدع بسعادة مزيفه، ولكن التفسير التصوري للحب يعجز عن تعليل الاختيار في
الحب: قد يخدعك الحب في امرأة ولكن لماذا يخدعك في امرأة بعينها دون سواها أليس
يشعر هذا بأن للمرآة نفسها تأثيرا ما ؟ ثم كيف تعلل الحب المتبادل بين شخصين ؟
تبقى جماعة من الماديين لا يرضون عن هذه النظريات السابقة لأﻧﻬم لا يقبلون
الأبحاث الفلسفية اﻟﻤﺠردة ويميلون إلى تفسير كل شيء تفسيرًا ماديًا ويعنون بتفسير
الظاهرات النفسية بإرجاعها للعوامل الفسيولوجية والبيولوجية، وهم يرجعون العواطف
المعقدة إلى أصول بسيطة يسموﻧﻬا الميول فالشراهة مث ً لا ليست عندهم حب الطعام المفرط
ولكنها ظاهرة ﻧﻬائية للميل الغذائي والحب هنا هو ﻧﻬاية الميل للتناسل، ولكن كيف السبيل
إلى إغفال هذه الحقيقة الواقعة وهي أن الحب قد يوجد من غير أن تمازجه فكرة الميل
للتناسل كما هي الحال في الشذوذ الجنسي والحب الافلاطونى، نعم قد يرد على ذلك بأن
اﻟﻤﺠتمع هو الذي يفسر الطبيعة وأن الشذوذ مث ً لا قد يأتي من التربية الفاسدة أو الظروف
القاسية ولكن العلماء يقولون أن الشذوذ يوجد في كل الطبيعة الحيوانية.
الحق أن أي نظرية من هذه النظريات لا يمكن أن تكفي لتفسير الحب لأن ك ً لا منها
– مع عدم إنكار ما تحوى من تعمق في التفكير – تبحثه من ناحية واحدة فتفسره تفسيرا
بسيطًا لا يتناسب وتعقد عاطفته فهو إما ظاهره ذاتية فقط أو موضوعية بحته أو سحرية لا
غير أو أنه ظاهرة بيولوجية والحق أن الحب عاطفة مركبة بل هي أعقد العواطف جميعها
ولا عجب فهو محور الوجود الحي والحقيقة أنه لا يوجد إنسان لا يحدوه في عمله حب ما
سواء في طفولته أو شبابه أو كهولته أو شيخوخته، كان الحب أداة في يد الحياة تسخرنا به
لأغراضها.
الحب عاطفة معقدة جدًا نجد فيها الميل البيولوجي والوهم الذاتي والجاذب
الموضوعي والإلهام القدسي والسحر الساذج، وأنواع الحب المختلفة تأتى من تغلب أحد
عناصره الكثيرة فقد يغلب على النفس ما في الموضوع فيصير الحب مثليا وقد تغلب أوهام
النفس فيصير جنونا وقد تتحكم الغريزة فيكون شهويا وهكذا مما لا يحصره عد.
لعل نوع الحب الذي يمنحه قلب الشخص يدل أقوى الدلالة على نفسيته وأسلوﺑﻬا
في الحياة ويكشف عن شخصيته وما فيها من قوة أو ضعف سمو أو انحطاط فالحب على
هذا مفتاح سرى نستطيع – مع التأمل وحسن الفهم – أن نلج به مغلق النفوس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق