كتبها:نجيب محفوظ
نشرتها:الثقافة-العدد162السنة الرابعة
تاريخ النشر:فبراير 1942
نشرتها:الثقافة-العدد162السنة الرابعة
تاريخ النشر:فبراير 1942
ليلة الغارة
سيذكر أهل العباسية ليلة منتصف سبتمبر ما نبضت لهم قلوب. وسأذكرها خاصة
كأشدهم ذكرًا لها. ولا عجب فقد امتحنا تلك الليلة بتجارب الرعب والفزع. وابتلينا
برؤية الموت سافرًا، أحاط بنا جو الظلام والوحشية. وكانت القاهرة قد ألفت أن تستيقظ
في جوانب متباعدة من الليل على عويل الإنذار بالغارات، متقطعا منذرًا بالشر، ومتص ً لا
مبشرًا بالسلام، ثم وقعت غارات الإسكندرية المفجعة، وترامت ﺑﻬا الأخبار، فحمل توقع
الشر الناس على الأخذ بأسباب الحذر من اللجوء إلى المخابئ العامة أو المخابئ الخاصة أو
الأدوار التحتية، وإنفضت الليالي بسلام، فاطمأنت النفوس، وتراخت عن الحذر، ولم تعد
الحجرة التي أعددﺗﻬا لاستقبال سكان بيتنا تستقبل أحدًا منهم، ولبثت خالية بستائرها
السوداء الكثيفة ونورها الأزرق الخافت.
فلما كانت الليلة المشئومة، استيقظت كالعادة بعد منتصف الليل على صفارة
الإنذار، ففتحت عيني ولما أفق من ذهول النوم، وظللت ثواني لا أفقه معنى الصوت
المدوي، ثم أدركت ما هنالك. وإستولى على سخط لذلك النذير الذي يطير النوم عن
أجفاننا ويرهف أعصابنا ويتركها فريسة السهاد ما بقى من الليل. ولبثت راقدًا لا أحرك
ساكنًا، وقد أخذت استرد شيئا من أفكار اليقظة وأحلام الليل وخواطر يشوﺑﻬا القلق...
... ثم تناهى إلى مسمعي صوت غريب، فأرهفت السمع ورفعت رأسي عن الوسادة في
قلق، وفى تلك اللحظة جاءني صوت أعرفه وأحبه من الحجرة اﻟﻤﺠاورة يهتف بي: " ألا
تسمع ؟... هذا أزيز طائرة"... نعم وهو ما كنت منه في شك. وﻧﻬضت على قدمي،
ودلفت إلى النافذة وفتحت أدرا فها الزجاجية، فسمع الصوت واضحا متزنا متصلا...
وانتظرت آملا أن ينقطع... أن يغيب في أفق من الآفاق... ولكنه استمر في عناد بغيض
مزهق للنفوس، حتى خلت أن الطيارة تدور فوق البيت... وجعلت اقلب ناظري في
السماء، فلا أرى شيئا غير النجوم الساهرة... والأزيز ينبعث من كل مكان ولا يمسك أو
يخف أبدًا... وخطر لي أن يكون مصدره طيارات مطاردة، وقوى الظن عندي سماع
الأزيز سريعا عقب انقطاع الصفارة، وراق لي الظن، ورجوت – صادقا – ان يصح
خبره... وما عتم أن رن جرس الشقة، فعلمت أن الجيران أقلقهم ما أقلقنى، وأﻧﻬم آثروا
أخيرًا اللجوء إلى حجرة الغارات كما ندعوها، وهرعت غلى الباب مستأنسا بالقادمين،
وفتحته فدخل الشيخ سيد مواهب – وهو من ذوى المعاشات – وزوجه، وحيياني، ثم
قال وهو يأخذ مجلسه المعتاد:
- كأن السماء ملأى بالطائرات.
فقلت له بلهجة انطوت على الرجاء:
- لعلها طائرات المطاردة.
فتمتم قائلا: " على الله “. وقالت زوجه:
- الشتاء قريب، ومغادرة البيت في الليل عمل شديد الخطورة، فينبغي إقناع
صاحب البيت بإنشاء مخبأ في الحديقة.
وهممت أن أؤيد رأيها، ولكن الأزيز اشتد وازداد وضوحا، فنسيت ما أردت قوله،
وانتقلت إلى مخدعي، ونظرت خلال النافذة إلى السماء، فتراءى لي مشهد جديد، رأيت
الأنوار الكاشفة تجول في رقعة السماء بسرعة جنونية، فتتماس وتتلاقى وتتقاطع، فخفق
قلبي وأيقنت أن ما نسمع من أزيز صادر حتما من طائرات معادية تخبط في سماء القاهرة
على هدى أو على غير هدى. وقبل أن أتحول عن موقفي أضاء الأفق بنور خاطف وهاج،
محا ضوء النجوم... وكنت قرأت كثيرا عن مصابيح الماغنسيوم التي تقذفها الطائرات
لتهتدي على ضوئها إلى أهدافها، فلم اشك في أن ما ينير الأفق واحد منها، وساورني
الخوف، وتساءلت مضطربا: هل نبتلى بما ابتليت به الإسكندرية من قبل ؟... ثم سمعت
صفيرًا غريبُا مبحوحُا، أعقبه على الأثر انفجار مروع اهتزت له الأرض وجاوبته الألواح
الزجاجية بطقطقة طويلة، فجفلت إلى الوراء، وتوالت الحوادث بسرعة فائقة. فدوى
انفجار ثان وثالث ورابع، وصكت الآذان أصوات غريبة مزعجة، ثم انطلقت المدافع
المضادة بكثرة وسرعة لا يتصورها العقل، وانقلب الجو الهادئ إلى جحيم من النيران
والزلازل والبراكين، يقلقل النفوس ويكتم الأنفاس. وصرخت السيدة هاتفة: " هلموا إلى
المخبأ ". ولكن زوجها هز رأسه بعنف، وقال بصوت متهدج: " بل نلبث حيث نحن
داعين الله الرحيم... ألا ترين أن التعرض للجو مجازفة خطيرة !". واطرد انفجار القنابل
وانطلاق المدافع، وجرى الجيران نحونا مهطعين، نساء ورجالا وأطفا ً لا، وتعالى الصراخ،
وهتف أناس: " يا لطيف... يا لطيف “. وسمعت شخصا يقول وقد رأى ضوء الماغنسيوم
فأساء فهمه: " لقد أشعلوا النار في العباسية كلها... وهلكنا جميعا.”. . وعلى هذا
النحو رأيت بعين لا تكاد تميز ما ترى الوجوه المفزعة التي هرعت نحونا صارخة. وجاءت
أخيرًا السيدة التي تقطن الطابق الثالث رافعة طفلها الصغير بين يديها، وارتمت على مقعدها
القريب من النافذة وضمته إلى صدرها لتسكن قلبه المذعور، وهى في مثل حاجته إلى من
يسكن قلبها... ولم نحتمل الصراخ فصحنا بالصارخين أن يمسكوا، وساد السكون
الحجرة، ولف الصمت المذعورين الذاهلين، ولبث أشدنا إحتمالا يتبادلون نظرات الحيرة،
وكأﻧﻬم يتساءلون: أما لهذا الهول من ﻧﻬاية ؟
وكان بين الحضور سيدة مهاجرة من الإسكندرية، بلغ ﺑﻬا التأثر مبلغه، فانتابتها
نوبة عصبية غريبة، فأغربت في الضحك، ضحكا جنونيا لا معنى له، وذهبت كل محاولة
لتهدئتها عبثا، وأراد الشيخ مواهب أن يقرأ آية الكرسي، فبدت نبراته مرتعشة، وصوته
متهدجا: ومضى يتلو مبدأ الآية: " الله لا إله إلا هو " ولا يزيد، وكأنما انسيها نسيانا تاما،
وأما زوجه فكانت كلما أحست هزة عنيفة استغاثت طالبة ماء، فلا تكاد تفرغ كوبا
حتى تطلب آخر... وأسندت رأسي إلى يدي فوجدت رأسي ساخنا ملتهبا، وكأن دمى
جميعا قد تركز في دماغي. وكان أقصى ما أتمناه ساعتئذ أن تكف القذائف لحظة ريثما
أتمالك أنفاسي المتداركة المضطربة... وبعد فترة يستحيل تقديرها على وجه صحيح بدأت
حدة الضرب تخف رويدًا رويدًا حتى لم نعد نسمع سوى طلقات منفردة هنا وهناك، ثم
ساد السكون. فتنفسنا الصعداء... ترى هل انتهيت الغارة ؟... وهل ولت حقا الطائرات
المغيرة ؟... وأبرز احد الموجودين ساعته وقال بصوت غريب: " مضى نصف ساعة على
سماع الإنذار..." نصف ساعة !... ونظرت نحوه بحنق وموجدة... رجوت والله أن يقول
بضع ساعات... وان الصبح أسفر أو كاد. نصف ساعة فقط ! كل هذا الدهر ثلاثون
دقيقة... تبا له ! ونظرت فيما حولي فإذا الجميع ملازمون أماكنهم والسيدة ما تزال
محتضنة طفلها. ولكن لم يطل اطمئناننا، فانطلقت قذيفة مدفع قريب، أعقبتها طلقات
أخرى شديدة، فارتجفت القلوب مرة أخرى، وأيقنا أن الموت ما يزال محلقا فوق رءوسنا.
وان طمأنينتنا وهم باطل. وفجأة أضاء الجو بذاك النور الوهاج الخاطف، ونفذ إلى الحجرة
كأنما حيطاﻧﻬا وستائرها السوداء من زجاج شفاف، ومحا نور المصباح الأزرق الخافت.
فلاح الهلع في الوجوه وارتسمت في الأعين نظرة تنذر بالهلاك، وسمع الصفير المبحوح
هابطا تلاه انفجار شديد دكت له الدنيا دكا وزلزلت زلزا ً لا. وأحدث أصواتًا عنيفة في
كل مكان، لعل أخفها وأهوﻧﻬا تكسر الزجاج خلف الستائر، وسرت في بنيان البيت
رعدة، انتقلت منه إلى النفوس، فضجت الحجرة بالصراخ، وﻧﻬض الشيخ مواهب فزعًا
رافعًا يديه، كأنما ليدفع ﺑﻬما سقف الحجرة وصاح لاهثًا: " سقط البيت... سقط
البيت..." واختلط علي الأمر فلم ادر أتصدع البيت حقا أم ما يزال قائما. ولكني سمعت
صفيرًا جديدًا خلته أدنى إلينا، وقبل أن تبلغ القذيفة هدفها طقطقت أدرا ف النوافذ بشدة،
ولطمتني موجة هواء عنيفة كتمت على أثرها أنفاسي، فأحسست اختناقا، ثم هزة قاسية
وانفجارًا يصم الآذان ويمزق شغاف القلوب، فما أدرى إلا والأرض تصدم وجهي،
وزكمت أنفى رائحة البارود الكريهة، فاستولى على القنوط، ودخلني مع القنوط استسلام
غريب لا عهد لي به. بل استهانة سافرة، وقلت لنفسي فلتأت النهاية، ولتأت سريعا...
ولبثت دهرا لا أدرى كيف مر، وقد ساد الصمت فداخلني شك في أنى ما أزال على قيد
الحياة، أو أني على الأقل ما أزال سالما... ورفعت رأسي قليلا، لم اشعر بألم قط، ولكن
ليس معنى هذا أني معافى، فأنا اعرف أن الإصابات الشديدة البالغة لا تحس الضحايا آلامها
وقت حدوثها. ورغبت أن أحرك أعضائي، وان أمر بيدي على جسمي، ولكن لم تسعفني
شجاعتي، وأشفقت من أن افقد عضوا فلا أجده، أو أن تغوص أصابعي في السائل
الساخن الذي يمسك علينا الحياة..
ولبثت ساكنا حتى يقضى القدر بما هو قاض، ومر الوقت في صمت رهيب، فلا
صراخ ولا كلام ولا انفجار. وعاودني الألم ولواحقه من الخوف والقلق... هل أمنى
النفس بانقشاع سحابة الهلاك ؟... أم تسقط علينا الشهب من جديد ويعقبها صفير الموت
؟... ومر الوقت ثقيلا – وعلى حين غرة انطلقت صفارة الأمان... رباه... انه شيء لا
يصدق... ما أحلاها... ما أجمل ترتيلها... ما أعذب سجعها . وصاح الشيخ مواهب: "
صلوا على النبي “، فصلينا من الأعماق، حتى جارنا أنيس منقريوس هتف بحرارة: " اللهم
صل عليك يا محمد " وحركت أعضائي فتحركت، وﻧﻬضت قائما لا أكاد اصدق...
رباه... إﻧﻬا الحياة تدب في من جديد، انه البعث من غير جدال، فوالله ما عرفت قيمة
الحياة كما عرفتها في تلك اللحظة... ولا لذﺗﻬا ولا سعادﺗﻬا، وفاض قلبي بفرح سماوي،
طربت له أعصابي جميعا، واندفع الناس في الثرثرة بغير حساب. لولا أن قطع علينا فرحنا
سماع صرخة أليمة. فامسكنا وتحولنا نحو مصدرها متطلعين، فإذا بالسيدة تحتضن طفلها
وتنظر إليه جزعة وتصيح: " أغيثوني... أغيثوني ... انظروا إلى رأسه “. ودنوت منها
ونظرت مع الناظرين، فرأيت في وسط الرأس فجوة مروعة يتدفق منها الدم كالنافورة،
ويسيل على حجرها أحمر قانيا. فجنت المرأة جنونا، وجعلت تلتدم وتشد شعر رأسها
بوحشية. وركض شاب يدعو الإسعاف. ولكن الشيخ مواهب اقترب منى وهمس في أذني
بصوت حزين: " واأسفاه ! ليس ثمة فائدة ترجى من استدعاء الإسعاف ... ولكني
أعجب كيف أصيب الطفل المسكين !"... فلم تتحول عيناي عن رأس الطفل، وقد لفني
الخوف ورانت على صدري الكآبة... وتساءلت متحيرا: كيف قتل الطفل ؟ لا شك أن
شظية اخترقت النافذة أو الحائط واستقرت في رأسه، وقد كان أينا عرضة لهذا المصير
المخيف، ولكنها اختارت الطفل وثكلت أمه التاعسة التي ما برحت تضمه إلى قلبها وتأبى
أن تصدق انه مات... وهكذا انتهت الغارة في مخبئنا الخاص.
لقد كانت تلك الليلة تجربة قاسية، ابتليت ﺑﻬا قلوبنا ومشاعرنا، وكان ختامها مأساة
تلك الأم التي ذبح وحيدها في حجرها...